في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظهر في مصر رجل يُدعى ( الأصيبيغ ) أعلن إسلامه وبدأ يثير مسائل في صميم القرآن والحديث يريد أن يشتهر أمره ويعلو شأنه ، فاحتار عمرو بن العاص رضي الله عنه - والي مصر - في أمره وأرسل إلى عمر رضي الله عنه يستفتيه فقال له : أرسل لي هذا الأصيبيغ وإياك أن يفلت .. وعندما أحضره الجنود جمع عمر الصحابة رضي الله عنهم في المسجد ثم أدخله عليهم وقال له : سمعنا ياأصيبيغ أنك تقول بكذا وكذا .... فهل هذا صحيح ؟ فقال الأصيبيغ : نعم، فقال عمر رضي الله عنه وهل تسأل أيضا عن مسائل أخرى ؟ فقال : نعم، أسأل عن كذا، وكذا وأبحث عند أمير المؤمنين عن إجابات لأسئلتي؟ فقال عمر رضي الله عنه: سأجيبك حالاً، ونادى الجلاد داخل المسجد وقال له : يا جلاد اجلده .... فجلده الجلاد حتى أغمي عليه فقال عمر رضي الله عنه : طببوه. وبعد أن طُبب الأصيبيغ أحضره مرة أخرى وأعاد عليه الكرّة مرة ثانية وثالثة حتى يغيب عن وعيه وفي كل مرة يأمر بتطبيبه، وفي المرة الرابعة وبعد أن أمر بن الخطاب بجلده قاطعة الأصيبيغ : يا أمير المؤمنين، أقسم بالله أن لا أسأل عن هذه الامور ماحييت فأوقف عمر الجلاد وأمر بإرساله إلى الكوفة. بعد نهاية الخلافة الراشدة وعندما ظهر المعتزلة وأهل الكلام بعد ذلك قالوا بمثل ما قال به الأصيبيغ، فذهب إليه بعض الناس وكان شيخاً كبيراً، فقالوا له :"قد ظهر رجال يقولون بقولك يا أصيبيغ فلم لا تكن معهم؟ فتحسس الأصيبيغ ظهره وقال: لا والله، فقد علمني الرجل الصالح". بعض الكتاب المعاصرين شبه عهد عمر بن الخطاب بالحكم العسكري استناداً إلى هذه الواقعة وعدة وقائع أخرى أظهرت قوة عمر بن الخطاب وبأسه الشديد واعتماده على الشدة في أمور كثيرة .. ليس صحيحاً بالقطع ما ذهب إليه بعض المفكرين، فهي لا تعدو "فلسفة حكم" انتهجها عمر بن الخطاب وأسس لها مدرسة خاصة في الحكم العربي والإسلامي تقوم على محاربة "أشباه الفتن"، إلى أن وضع الشيخ جمال الدين الأفغاني نظرية "المستبد المستنير"، وهي النظرية التي تعتمد منهجية الحاكم العادل صاحب الاتجاه الفكري الأوحد. المستبد المستنير ومن مدرسة الحكم "الخطابي" تخرج جمال عبد الناصر ومعاملته مع أشباه الفتن تساوت ما بين الشيوعيين والإخوان، وبرغم تغير الظروف والأجواء وانتشار الديمقراطية في العالم أجمع إلا أن عبد الناصر ظل ينتهج نظرية "المستبد المستنير" التي عفا عليها الزمن. ومع الاعتراف الكامل بأن "قضية الديمقراطية" والفشل في تطبيقها هو أحد العيوب "القوية والرئيسية" التي خلفتها فترة الستينات وحكم عبد الناصر، وهي مسألة ليست بالهينة، وبالرغم من الاعتراف الكامل بأن عصر عبد الناصر شهد الكثير من الأخطاء، إلا أنه يجب أيضاً الاعتراف بأن عصره شهد طفرة قوية ونهضة غير مسبوقة وحكماً إسلامياً (في مضمونه وفحواه). المبادئ الست التي أعلنتها ثورة يوليو تشابهت إلى أبعد مدى مع كل المبادئ التي دعا إليها الإسلام وغالبية حكامه الذين اشتهر عنهم العدل .. فالقضاء على الإقطاع، القضاء على الاستعمار وأعوانه، القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة عدالة اجتماعية، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، وإقامة جيش وطني قوي .. كلها مبادئ إسلامية. لم ينكر عبد الناصر أنه يسعى لتطبيق مبادئ إسلامية (إلا أن الخلاف كان حول التسمية)، وقد دلل عبد الناصر على ذلك في إجابته على سؤال لأحد الصحفيين البريطانيين حين سأله لماذا لا تقول صراحة بأنك تطبق تجربة إسلامية في الحكم ما دمت تؤمن بالاشتراكية العربية المستندة على أسس إسلامية؟، فأجاب عبد الناصر :"أن الحكم والسياسة مجرد تجربة إنسانية لا تخلو من احتمالات الخطأ .. فإذا فشلت سيقولون إن عبد الناصر هو الذي فشل، إنني أريد أن أتحمل مسئولية الفشل – فيما لو حدث – وحدي ولا أحمله على الإسلام. وأمامنا تجربة محمد على جناح في باكستان التي فشلت هناك فقال البعض إن الإسلام هو الذي فشل وليس محمد على جناح، فلماذا أعرض الإسلام لمثل هذا النقد الذي ينال منه بكل تأكيد". الحرية الحقيقية وقف عبد الناصر ذات يوم في أحد خطاباته قائلاً :"إن البطاقة الانتخابية لا معنى لها من دون حرية رغيف العيش"، ولم يكن الرجل يرسخ لمبدأ ديكتاتوري كما يحلو للبعض أن يزعم، إنما كان مربط قوله إن قضايا الحرية ترتبط في الأساس باستقلالية كاملة في اقتصاديات الدولة فلا حرية بدون استقلال .. وهو ما ترجمه عملياً إلى أفعال ذات قيمة حتى يومنا هذا، فأسس حركة عدم الانحياز وأسس مؤتمر التعاون الإسلامي، وأسس المنظمة الإفريقية والعديد من الحركات التي ترسخ لمبدأ الاستقلال الكامل عن دول الاستعمار الغربي قبل طرح المزيد من القضايا .. مقولة عبد الناصر تتوافق إلى حد كبير مع قول خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز الذي قال "إن الأفواه الجائعة أولى بالأموال من بيت الله الحرام" فهناك دوما قضايا أبدى من قضايا وحاجات للشعوب أولى من حاجات أخرى. وليس أدل على تطبيق (روح الإسلام) لدى عبد الناصر مما ذهبت إليه تقارير المخابرات الأمريكية أثناء فترة الخمسينات والستينات والتي أكدت أن عبد الناصر قائد ليس له ثغرة فهو بعيد عن "النساء - الخمر - فساد الذمة المالية" وهو ما أكدته الذمة المالية لعبد الناصر بعد وفاته، فلم يثبت أن الرجل حصل على جنيهاً واحداً يزيد عن راتبه حتى وافته المنية.