كان يسير وهو "يعرج" حاملاً زجاجات المياه الباردة ليوزعها علي الثوار في ميدان التحرير في الصباح التالي لمعركة الجمل. يجمع الزجاجات، ويغسلها ثم يعيد تعبئتها بالمياه الباردة من جامع عمر مكرم، ثم يعود ليدور في الميدان في وقت الظهيرة ليوزعها علي الجميع! ملابسه بسيطة لكن أحلامه "كبيرة" وإخلاصه لا يوصف! رحل الكثير عن الميدان وبقي هو حالماً بوطن يستحقه! غير بعيد عنه كان هناك رجل يقترب من الستين يقوم بتجميع الطعام الذي أحضره الثوار "كل علي حسب مقدرته" ويصنفه ويصنع منه "السندويتشات" للواقفين علي البوابات، ثم يقوم بالتوزيع علي الجميع بهمة شاب في العشرين! كان هذا وقت أن كان الميدان يجمعنا والأحلام توحدنا والثورة في عز نقائها. هؤلاء لا يعرفهم ولن يعرفهم أحد، ولن يظهروا في الفضائيات، ولربما قابلتهم علي هامش الحياة، يعملون في وظائف هامشية، ويسعون علي رزق أولادهم .. لكنهم في الحقيقة أبطال بكل ماتعنيه الكلمة من معاني! * * * * * كان صغيراً يقف مع زملائه في المدرسة يتحدثون ويضحكون، وفجأة تعلق إحدي الفتيات علي زميلة لهم بأنها "بنت ضايعة! مبتغيرش البلوفر طول السنة"! يصدم للحظات ثم ينفجر فيها، ويعطيها درسا في عدم السخرية من الآخرين بسبب حالتهم المادية، وأن هذا سلوك "منحط"! لم يكن صاحبنا يصلي آنذاك، بل وكان أبعد ما يكون عن طريق "الحق"، لكنها بعض أخلاق ومبادئ زرعها فيه أهله! سنوات طويلة مرت، وأسمع في هذه الأيام عن قصص سخرية "مؤذية" من آباء لأطفال ابتلاهم الله. وأتساءل في نفسي وأين أهل هؤلاء الساخرين؟! لاتسخر من أحد بسبب ظروفه فلربما عافاه الله وابتلاك .. وعلم أولادك ونحن مقبلون علي المدارس ألا يفعلوا .. ولا تكن سببا في تعاسة أحد، فيكفينا تقصيرنا وتعثرنا، ولاداعي لمظالم مع الغير أو دعاء مظلوم سيصيبنا، ولو بعد حين .. ولو بعد حين! * * * * * يمسك بيد ولده الصغير، ويسيران معاً في "المول" التجاري الراقي الصاخب. الولد في منتهي السعادة بصحبة والده في مكان لم يره في حياته من قبل. الوالد يسير بملابسه البسيطة وحذائه الممزق، ينظر له بعض "المرضي" باستغراب وتأفف! كيف يقتحم "أمثاله" عليهم حياتهم ومجتمعهم و"مولاتهم"، الولد سعيد ولا يشعر، فأبوه البسيط "الرائع" هو كل حياته. الأب يسير باستحياء محاولا تجاهل نظرات "المرضي". لاتخجل يا صديقي فأنت الرائع بكفاحك وبساطتك وسعيك علي رزق أولادك حتي لو كانت ملابسك بسيطة وحذاؤك ممزقا، وهم "مرضي" يحتاجون إلي علاج طويل حتي وإن لبسوا أفخم الثياب، وتحدثوا بلغة أسيادهم! الكل مبتلي، فقير مبتلي بفقره وغني مبتلي بغناه والأيام دول! كم أكره المستكبرين؟!