تعليقا على ما طرح مؤخرا حول طاولة للحوار في سوريا، لا يوجد كائن اسمه التفاوض من دون شروط مسبقة، فالتفاوض يلزمه قاعدة يتم التفاوض على أساسها، وأهدافًا يتفق عليها الطرفان المتفاوضان، ولو ضمنا، ثم يجري التفاوض لتحقيقها. ومن دونها لا يكون التفاوض تفاوضًا، بل يتحول إلى منتدى حورايًّا، أو يكون استمرارًا للصراع بأشكال أخرى. ويبقى الفرق بينه وبين الصراع على الأرض في أن موازين القوى لا تتغيّر بالكلام، والأطراف تكرّس وضعها القائم. فمن يمسك بالسلطة يبقى في السلطة، ومن يحتل أرضا يدور حولها الصراع يبقى محتلا لهذه الأرض. وإذا صح هذا في العلاقات بين الدول، فإنه يصح بدرجة أكبر حين يتعلق الأمر بالعلاقة بين دولة منظّمة وشعب ثائر. إذا كانت أرض أحد الطرفين المتفاوضين محتلة من قبل الطرف الثاني، ولم يحصل منه على تنازل بالانسحاب على اساس الاعتراف بالحق، ثم جلس يفاوضه من دون شروط، فإنما يكون قد أضعف من شرعية حقه ومن وحدة الموقف تجاه هذه الدولة المحتلة، وقد يفقد حلفاءه في الموقف ضدها، لأنهم لن يكونوا أكثر إصرارا منه على حقوقه. وبعد هذا كله يبقى الاحتلال، فموازين القوى لا تتغير على الطاولة ذاتها. وهذا ما أدركته سوريا فيما يتعلق بإسرائيل، إذ أنها رفضت التفاوض من دون شروط وحافظت على حقها في الجولان، وعندما فاوضت فإنما فاوضت على أساس محدد هو قرارات دولية بالانسحاب من الجولان (بغض النظر عن رأينا بهذه القرارات). إذا كانت إسرائيل ترفض التنازل عن كامل الجولان قبل التفاوض، فهي لن تقتنع بذلك في المفاوضات. وقد أحسنت سوريا بإدراكها ذلك وصمدت بالإصرار على الشروط. أما إسرائيل فليس لديها مانع أن تفاوض من دون شروط حتى لو طرح الطرف العربي المفاوض وجودها نفسه على طاولة المفاوضات. تفضلوا للتفاوض من دون شروط مسبقة واطرحوا ما شئتم! هكذا كانت إسرائيل تخاطب العرب. ولا علاقة بين استمرار الاستيطان واستمرار الكلام. مع الفرق أن هؤلاء يستوطنون ويتكلمون وأولئك يتكلّمون. ولقد فشلت كل مفاوضات انطلقت بلا أسس، وظلت حوارا بلا نهاية تطبّع خلاله الموقف من إسرائيل. وما ينطبق على الدول ينطبق بدرجة أكبر على الثورات. فالثورة الشعبية حالة نادرة في التاريخ، إذ تولد أجيالٌ وتندثر ولا تحظى برؤية هذا الحدث الاجتماعي الشامل. وإذا ثار شعب بعد صبر مديد على الاستبداد، فلا يمكنه أن يتراجع قبل تحقيق الحقوق، لأن الثورة ظاهرة اجتماعية فريدة ومركبة، وليست حدثا مثل مظاهرة يمكن ان تنتهي وتنتظم مرة أخرى. وإذا اعترف النظام بحقوق الشعب الثائر وبأهداف ثورته، فلا شك ان مفاوضته واجبة لتوفير أي ضحية بشرية إضافية، ولحفظ البلاد من الدمار الشامل في الحالات التي تتحوّل فيها الثورة إلى ثورة مسلحة تواجه حربًا شاملة يعلنها النظام على مدنه. ولكن التفاوض منوط بوصول النظام الى نتيجة مفادها أنه غير باق، وبقبوله تحقيق أهداف الثورة. ولا يكون التفاوض على أهداف الثورة بل على تحقيقها. من دون ذلك لن يكون تفاوضا بل حوارا لا ينتهي، ويشق صفوف الثوار, ويشتتهم ويحبط معنوياتهم، ثم يعود النظام، بعده أو خلاله، ليستفرد بالثوار جماعات، بعضها يستسلم وبعضها الآخر يتم احتواءه وآخرين يقضى عليهم. وقد حصل ذلك في التاريخ حينما نجح نظام في تشتيت صفوف الثوار. ومع فارق الظروف والخطورة ووحشية القمع، لو واصلت بعض أوساط المعارصة المصرية التفاوض غير المشروط مع عمر سليمان، لأدى ذلك الى صراع في صفوف الثورة وفشلها. ومن هنا كان رد الثوار حاسما، ما أوقف الحوار على الفور. ليست الثورات جيوشًا يمكن أن تعلن وقف إطلاق النار ثم تواصل القتال بعد فشل التفاوض، بل تنهار إذا فقدت الثقة الداخلية، وإذا ثارت الشائعات عن قبول فلان واحتواء فلان. وهذا غير وارد في حالة سويا المتطرفة في دمويتها . وشروط إنقاذ سوريا بحل سياسي حاليا هي 1. قبول النظام بضرورة تنحي الرئيس، و2. تغيير النظام إلى نظام ديمقراطي يقوم على المواطنة المتساوية. ولقد أصبح واضحا، ومسّلما به أن الشرط الثاني غير ممكن التحقيق من دون الأول. ثم يجري التفاوض على كيفية تنفيذ ذلك من دون أن تنهار البلاد، وبضمان وحدة الشعب السوري. بلا شروط كهذه يكون الكلام عن طاولة الحوار مجرد غطاء لفظي لاشتداد القصف على الجبهات كافة. وملاحظة أخيرة: لا يؤدي استمرار هذا القصف إلى وقف الثورة، بل الى دفع الثوار إلى معركة حياة أو موت تتوسع باستمرار، وإلى بحث عن أسلحة أكثر تطورا عند من يمكن أن يزود بمثلها، ومن الواضح من يملك مثل هذه القرارات في مقابل محور روسيا في عالمنا. وهذا ما يجري حاليا بتسارع كبير، سيؤدي الى سقوط النظام، ولكن بدخول قوى سياسية وعسكرية قادرة على تأطير وتدريب الثوار في مواجهة حرب حقيقية بالطائرات من دون أن تحتل سوريا بالضرورة. فتركيا يهمها أن تنسق مع الولاياتالمتحدة أكثر مما يهمها التنسيق مع الدول العربية رغم الكلام. وأميركا دولة بأهداف سياسية غير بريئة إطلاقا، ولديها مشاريع سياسية وتصورات لمستقبل المنطقة، خلافا للدول العربية القليلة التي دعمت الثوار حتى الآن. وتشير كافة الدلائل للأسف إلى أن الأميركيين يتورطون بكثافة ولأهداف ومهمات تتجاوز جمع المعلومات مؤخرا. ولا نزيد أحدا معلومة إذا ما أكدنا أنهم موجودون في الدول المحيطة بسوريا كافة ومن دون استثناء. هذه ليست تطورات حتمية، ولكن النظام مسؤول عنها. وفي ظل حرب النظام الشاملة عليه لا يبدو أن الثوار السوريين وكتائبهم ومجالسهم العسكرية سوف يأنفون عن قبول المساعدة، وحتى شروطها، المتعلقة بتنظيمهم وتوحيدهم (وربما بأمور أخرى أيضا). لقد أخرجت قمعية النظام التي لا تعرف الحدود الثورة السورية من حدود الصراع داخل الدولة. ومن يعمل في ظل القصف والسكين على عنقه، ومن دون قيادة سياسية وطنية موحدة ذات علاقة مباشرة بالأرض، لا يلتفت كثيرا للوعظ . ليست طاولة الحوار بلا شروط بديلا، لقد اصبح هذا من نافل القول. والبديل الوحيد لما يجري هو اقتناع أوساط داخل النظام بضرورة تنحي الرئيس والتفاوض على خطوات الانتقال الى الديمقراطية بشكل يحافظ على وحدة الدولة والمجتمع في سوريا. ويكون التفاوض على تحقيق هذه الشروط. الشعب السوري لن يتراجع وسوف ينتصر. السؤال هو فقط: هل سوف ينتصر بسوريا سليمة موحدة كشعب ودولة ومجتمع، أم سوف ينتصر من خلال سيناريوهات ترافقه وتتبعه من النوع الذي لا نرغب بوصفه أو تخيّله على الرغم من بشاعة ما رأينا حتى الآن.