عندما تكون إحدى يديك أو كلتاهما عاجزتين عن الحركة لا تأتى بكرسى متحرك ليساعدك، هذا ما يحدث فى الدول العربية الإسلامية الآن ومنذ تاريخ قريب، إصرار غريب وعجيب على استدعاء تجربة أردوغان فى تركيا وكأنها الحل السحرى لمشكلاتنا، فى حين أن حالنا غير حالهم بل وبوضوح أكثر عندما يأخذ مريض دواء خطأ ويأتى بنتائج جزئية فهذا لا يعنى أبدا أنه يمكنك أن تستخدم انت أيضا هذا الدواء. ما فعله أردوغان فى تركيا ويفعله هو إستمرار لمحاولة تحسين الشروط التوافقية بين حزب يحمل ملامح إسلاميه ودولة علمانية مستبدة والنظام العالمى القائم بقيادة أمريكا ، هذا الوضع التوافقى هو المستمر منذ سقوط المقاومة الأولى للاستعمار القادم من أوروبا والذى بدأ مع إحتلال نابليون لمصر. يقول الأستاذ فادى إسماعيل فى كتاب: «الخطاب العربى المعاصر: قراءة فى مفاهيم النهضة والتقدم والحداثة»؛ " إذن يمكن الحديث عن المقاومة الأولى أو المرحلة الأولى من مقاومة الإستعمار الأجنبى ، هذه المرحلة التى حدثت أثناء وقوع الإحتلال السافر تمت بواسطة السلطة الرسمية المحلية (الحكام والسلاطين والبايات) ولكنها كانت مقاومة قصيرة غير فعالة ، لذلك كانت الفئات الوطنية التقليدية والأهلية تبادر هى بنفسها لأخذ زمام المقاومة المسلحة (كعبد القادر الجزائرى ورجال الأزهر والمهدى وعمر المختار...) يمكن إعتبار هذه المرحلة المبكرة لمقاومة الإختراق الغربى والتى قادتها تكوينات إجتماعية تقليدية يغلب عليها رد الفعل النمطى(الأول) وهو الرفض القاطع الكامل للغرب ، رفضه كإحتلال وهيمنة عسكرية وسياسية وإقتصادية ورفضه كأسلوب فى الحياة والتنظيم. رد الفعل النمطى الأول هذا كان الأكثر تمسكا بالتراث والأصالة ولكن إندحار هذه المقاومة التقليدية رغم البسالة الأسطورية لبعض قياداتها هو الذى مهد الساحة المجتمعية لقبول رد فعل النمطين الآخرين أى المحاكاة والتوفيقية". وهكذا سقطنا فى فتنة التوافقية ومحاولة التغيير من داخل المنظومة وأخذت تتراجع المطلحات التراثية والإسلامية لتحل محلها مبادىء وأحكام وقوانين بل ونظام مجتمعى جديد فرضه الإستعمار وتطور على يد الحكام منذ عصر محمد على ، يقول سهيل القش فى كتاب فى البدء كانت الممانعة " فالغالب يعرض على المغلوب رؤية للصراع جوهرها التماثل والصلح وهذا لا يعنى أن الغالب لا يعى كنه الصراع أو انه تغيب عنه ممانعة المغلوب ولكنه يمنهج للمغلوب الاستمرارية الشرعية لغلبته. إن التعمية الأيدولوجية التى يمارسها الغالب تتناول بالتحديد ليس تناقض الغالب بل تشويه ممانعة المغلوب ضد السيطرة وهى ممانعة ترتكز فى وعى المغلوب المباشر إلى رؤية العلاقة كتناقض تناحرى وكتمايز حاد ، وهذا ما يسعى الغالب إلى طمسه وإلى أن يحل محله رؤية تقوم على طرح النزاع كإختلاف طبيعى يؤكد الهموية والتماثل الأبدى مع وعد المغلوب دائما بجنة المساواة الوهمية خارج العلاقات الفعلية". وهكذا تشوهت مبادىء المقاومة فى معناها الحقيقى (الجهاد) وتحول الإحتلال بعد الهزيمة العسكرية إلى إحتلال سياسى وفكرى وإقتصادى بل ونفسى ، شوه المجتمع وأفكاره وأخلاقه ودينه ، تكون مع مرور الوقت بل وربما منذ اللحظة الأولى للإحتلال مجموعات مهزومة نفسيا من نخبة سياسية وفكرية وعسكرية قادت المجتمع ليعيش تحت شروط الإحتلال وقواعد المدنية الحديثة ، تدريجيا حدث إختراق للأمة والمجتمع ، أدت إلى تكون ما سماه فادى إسماعيل بالمقاومة الثانية ، مشايخ وعلماء ومفكرين من الأمة مازالت لديهم الاخلاق والدين لكى يطلبوا إستعادة مجد الأمة وإخراج الإحتلال ولكن لأن التشوه القائم فى المجتمع كان كبيرا وهم أنفسهم ذاقوا منه ولأن الإستعمار كان لايزال فى قوته وعنفوانه كانت المقاومة أكثر رقة تعتمد بالأساس على التوافقية والمحاكاة وإستدعاء الماضى للتوفيق بينه وبين الحضارة الأوروبية الحديثة ، كان الإنهزام النفسى الجزئى قد طال حتى صفوة الامة وأصبح المطلب هو الإستقلال السياسى للأوطان بمفهومها القومى لا الدينى ويتم الإستقلال طبقا للقيم والقوانين السياسية للإستعمار وفى ظل التبعية السياسية والإقتصادية للغرب. فى ظل كل هذا الجو الكئيب كانت تظهر بعض النداءات أو الأفكار أو الحركات التى تطالب بالعودة إلى أصل الأمة إلى دينها إلى الإنفصال عن المدنية الأوروبية الحديثة بكل ما فيها من بعد عن ديننا وقيمنا وأفكارنا ، كان بعضها دينى فقط ويظل مكانه الكتب أو المساجد فقط دون أن ينتقل إلى أرض الواقع أو ينتقل إلى أرض الواقع ولكن الحركة تقهر سريعا ، لم تعدم الأمة طوال تلك الفترة من ينادى بالحق واضحا دون لبس ولكنها كانت أصوات قليلة خافتة ، حتى ظهر الإمام البنا ، كانت جماعة الإخوان المسلمين بداية لتصور جديد إنقطع عن الأمة من زمن طويل وهو عودة إلى الدين بمفهومه الشامل الحاكم للأمة فى كل أمورها كان البنا واضحا فى أفكاره ، أعراض مرض التوافقية والمحاكاة لم تصبه ، الفكرة ناضجة متحركة على الأرض. ثم تجددت دعوة الإخوان المسلمين بأفكار الأستاذ سيد قطب تلك الأفكار التى كانت بمثابة تجديد للأمة فى وقته بكل ما تحمل الكلمة من معان، وضوح كامل ، قوة فى بيان الحق، إستعلاء الدين على كل الأفكار والنظم الوضعية فى وقت كان الدين يمتهن من أهله أكثر من أعدائه ، كانت العودة تتم تدريجيا إلى حركة المقاومة الأولى ، كان التيار الإسلامى المتكون وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين وكأنه يدعو بعد رحيل الإحتلال عسكريا إلى التخلص من كل ما بقى من إحتلال إقتصادى وسياسى وإجتماعى وهنا كان هؤلاء المنبطحين وصرعى الأفكار الغربية من النخب العسكرية والفكرية والسياسية يقومون بدور الوكالة عن الإحتلال فى بقاء الخلل فى التصور للصراع بين الدول الإسلامية وأفكار المدنية الغربية الحديثة ، ذلك لأن تلك النخب تربت على قيم ومفاهيم بعيدة عن أصل هذه الأمة وحدث لديها تشوه وإنحراف واضح للفكر لا يجعلها تتصور أن هناك طريقة أخرى للنهضة أو حتى الحياة بدون المصطلحات والمفاهيم السياسية والإجتماعية والإقتصادية التى صنعها المحتل وتركها ببلادنا . مع مرور الزمن وبدء تغير الواقع الدولى وبدء الحديث عن ضرورة إتاحة فرصة للإسلاميين للإندماج الحقيقى للتيارات الإسلامية فى العملية السياسية وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر ، بدأ الأمريكيون تحديدا دراسة عميقة لكيف يتم إدماج الإسلاميين فى العملية السياسية؟ . كان السبب الرئيسى لهذا السؤال هو إيمانهم بضرورة تغيير الأوضاع السياسية فى البلاد الإسلامية والسعى لوجود أنظمة ديمقراطية بشروط أمريكية لأن هذا سيؤدى إلى تقليل أو إنهاء الأفكار الإرهابية المتطرفة من تلك البلاد وبالتالى الحفاظ على أمن الولاياتالمتحدة حسب رؤيتهم ومن هنا كانت القناعة الواضحة أنه لا يمكن أن تتم عملية تحول ديمقراطى بدون إدماج الإسلاميين فى العملية الديمقراطية كما قالت كارى ويكهام فى تقرير معهد السلام الأمريكى المنشور فى عام 2005 " الإسلاميين وصناديق الإنتخابات ، أمثلة من مصر الأردن والكويت وتركيا " بعد هذا الإستنتاج بدأ الأمريكيون يضعوا الإجابة لكيف تتم عملية الإندماج بحيث تحافظ على الأفكار التى تضمن بقاء المجتمعات الإسلامية أسيرا لفكرة التوافقية ويظل خلل التصور للصراع فى أنه مجرد تباين وخلاف فى الرؤى بين الغرب والشرق وليس صراع فكرى وسياسى وإقتصادى وتنافر شبه تام بين الأفكار الغربية والإسلامية . كانت الإجابة هى كما ذكر فى نفس التقرير أن الممارسة السياسية ستؤدى إلى التغيير فى منظومة القيم الأساسية للجماعات الإسلامية وأن أكثر الأفراد فى تلك الجماعات على إستعداد لقبول التغيير هم أفراد الجيل الوسط من تلك الجماعات كما أن هناك جماعات أكثر إستعدادا لأن تتغير من غيرها ولكن يظل فرص التغير أكبر عندما يكون هناك فرصة لكسر شبكة تلك الجماعات عن طريق إقامة تحالفات سياسية مع أحزاب علمانية لإحداث التحول الديمقراطى ولكن يعود التقرير ليحذر أن القواعد لتلك الجماعات وخاصة الموجودة فى الأقاليم البعيدة ستحد أو تمنع من حدوث هذا التغيير خاصة فى النقاط الأساسية . ثم يضيف نفس التقرير أن هناك أربع نقاط أساسية حتى تتم عملية التحول فى منظومة القيم الحاكمة لتلك الجماعات وتصبح أكثر ليبرالية فى تغيير مصطلحات وأفكار التغيير لديها ؛ 1) إستعدادها لبناء تحالف مع أحزاب وجماعات سياسية تحمل أفكار وأراء مختلفة عن المنظور الإسلامى لتلك الجماعات 2) إستعداد قادة تلك الجماعات لتغيير وجهة نظرهم للأفكار الحديثة المتقدمة بعد الدخول فى تلك التحالفات 3) إذا ما كان يمكن تبنى وتبرير تلك الأفكار الجديدة داخل الحركات الإسلاميه وقبولها 4) إذا كانت الظروف تسمح بوجود مصلحين من داخل تلك الحركات يقومون بإحداث نقد ذاتى مما يؤدى إلى تغيير القناعات داخل تلك الجماعات . وإذا نظرنا إلى تقرير راند المنشور فى 2007 " بناء شبكات إسلامية معتدلة " والذى يطرح القلق من إدماج جماعة الإخوان تحديدا فى العملية السياسية وإذا كان لديهم نية حقيقة للتغير وليست لديهم أجندة خفية تجاه إسرائيل على سبيل المثال ، فيعرض مجموعة من الأسئلة (تبين لنا ماذا يعنون بالأفكار الجديدة) ليتم قياس مدى ما وصل الإخوان إليهم من التغير فى الآراء فيسأل ؛ هل يدينون العنف أم لا؟ هل يؤمنون بالديمقراطية أم لا وكيف يعرفونها؟ هل يؤمنون بحرية الفرد فى تغيير دينه (حد الرده) ؟ هل يريدون تطبيق الحدود ؟ هل يؤمنون بالأنظمة المبنية على القوانين الوضعية؟ وغيرها العديد من الأسئلة ثم يضيف التقريروينقل عن عمرو حمزاوى بأن الولاياتالمتحدة لتصل إلى إسلاميين معتدلين عليها أن تدمجهم فى العملية السياسية لتستطيع التأثير عليهم . وبالنظر إلى تلك الأسئلة تشعر فعلا أن الأمريكيين يعلمون حقيقة الصراع وأن الصراع فى حقيقته بين منظومتين ورؤيتين لللحياة والدنيا بأكملها رؤية إسلامية ورؤية غربية . هنا نقف وقفة ننظر حال الحركات الإسلامية من ذلك الكلام ، هل تحول الوسائل إلى غايات هل خاضت الحركات الإسلامية غمار المعارك السياسية وهى تظن فى نفسها خيرا أنها لن تتأثر بكل ما فى الطريق من فساد وتنازلات. تشعر وكأن الأمريكيين يرتبون لتمديد أو تجديد الأفكار التوافقية يريدون أن يحولوا مسار تلك الحركات من التقدم لبناء الأمة المسلمة إلى العودة إلى تحسين شروط البقاء تحت التبعية للغرب . ننظر إلى كلامهم وحالنا ، ننظر إلى الظرف التاريخى ونحن نزيل النخبة العسكرية الحاكمة وكيل التبعية الأول فى بلادنا ونعلم أن النخبة الثقافية والسياسية بدون حماية النخبة العسكرية لن تستطيع أن تفعل شيئا وننظر إلى أنفسنا هل نستطيع أن ندرك ذلك الظرف التاريخى أن نسهم فى دفع الأمة للتحول من الملك الجبرى إلى الخلافة كما أخبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أم أننا نعيد الحقبة التوافقية مرة أخرى وبدلا من أن نسير إلى الأمام نعود إلى الوراء. فى نفس تقرير راند حول بناء الشبكات الإسلامية المعتدلة طرح وبوضوح أن أحد سبل الحصول على مجتمعات معتدلة فى الدول الإسلامية العربية هى تحويل مسار تدفق الأفكار بدلا من أن يكون من مصر والسعودية وسوريا والجزائر وغيرها ليكون من تركيا وماليزيا وأندونسيا إلى تلك الدول عن طريق حركة الترجمة للكتب ونقلها للعربية وعكس مسار إنتقال الأفكار مما سيساعد على وجود إسلاميين معتدلين بمفهومهم أو توافقيين فى الحقيقية.