في الأيام الحالكة السواد ، اعتاد المصريون أن يظهروا وعيا وتجمعيا للصفوف وتوحد للعقلية الجماعية تفرض نفسها بقوة على أي حدث مهما كان عظم أمره ومهما كانت جسامته ، إلا أن الأيام القليلة الماضية أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن هناك تغيرا جذريا طرأ على "جينات" المصريين التي توارثوها جيلا بعد جيل منذ فجر التاريخ . فما بين محاولة تضليل عامة الشعب وانتهازية السياسيين، سقط الشعب المصري فريسة سهلة للفرقة والاختلاف والأطماع الشخصية . فمنذ أن بدأت ثورة يناير ، لم تتحد صفوف المصريين في موقف واحد ، واتفقوا على الاختلاف غير مبالين بسقوط ثورتهم وضياعها أدراج الرياح . وبالرغم من أن معركة بقاء الثورة واستمرارها مرهونة بمعركة الدستور إلا أن خلافات واختلافات وأطامع ومطامع السادة الساسة قد تنذر بكارثة تعيد مصر إلى النفق المظلم الذي عاشت فيه لأكثر من ثلاثين عاما .. بعد أن بدت نهاية النفق قريبة ولاح ضوء الشمس من بعيد . أزمة اللجنة ولجنة الأزمة .. اتهامات متبادلة طفت على السطح مرة أخرى مشكلات اللجنة التأسيسية للدستور بعد أن استمرت طوال الأشهر الماضية وبعد أن أوشكت أزمتها على معرفة سبل الاتفاق وطرق الحل. للمرة الثانية تعود مطالب الكتلة البرلمانية الأكبر ( الإخوان ، السلفيين ) بالسيطرة على أكثر من 50% من التأسيسية ولكن بشكل أكثر استحياء من ذي قبل وهو ما رفضته الكتل البرلمانية المدنية والليبرالية شكلا ومضمونا. فقد انسحبت 4 أحزاب وعدد من الحركات والكتل السياسية من الجمعية التأسيسية، بسبب ما اعتبروه "تمسك تيار الإسلام السياسي بالاحتفاظ بأغلبية تشكيل الجمعية". وأعلنت أحزاب هي "المصري الديمقراطي، والتجمع، والمصريين الأحرار، والتحالف الشعبي"، في اجتماعها، الإثنين، بمقر حزب التجمع، تنازلها عن 6 مقاعد مخصصة لهذه الأحزاب في الجمعية التأسيسية لصالح الفئات غير الممثلة في الجمعية، مثل "الفنانين والأدباء والأقباط وأهالي النوبة والمرأة". كما أعلنت أحزاب "الجبهة، والعدل، والتجمع"، والجمعية الوطنية للتغيير، ونقابة الاجتماعيين ونقابة المهن الرياضية، تنازلها عن المشاركة في اختيار الشخصيات العامة الممثلة في الجمعية التأسيسية. وأكد المنسحبون في بيان ألقاه فريد زهران، عضو الهيئة العليا لحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، خلال مؤتمر صحفي عقب الاجتماع، أنه "تم الاتفاق مع جماعة الإخوان المسلمين وتيار الإسلام السياسي على أن يحصلوا على 50% من مقاعد الجمعية التأسيسية، على أن تحصل القوى المدنية على النصف الآخر، إلا أنهم فؤجئوا بضم حزبي الوسط والبناء والتنمية الإسلاميين للتيار المدني، إلى جانب ضم الأزهر والكنيسة والمؤسسات القومية، ويبلغ عددها 18 عضوا إلى التيار المدني، رغم أن هذه المؤسسات لا ينبغي أن تحسب على أي تيار سياسي، ولذلك فإن هذه الأحزاب والقوى المتنازلة والمنسحبة طواعية تحمل المجلس العسكري مسؤولية المسار الخاطئ الذي أوصل إلى هذه الأزمة". وحمّل البيان جماعة الإخوان المسلمين "مسؤولية حل هذه الأزمة التي نشبت أساسا بسبب إصرار الإخوان على الهيمنة ورفض التوافق". من جانبه ، اتهم نادر بكار المتحدث الرسمي باسم حزب النور السلفي الكتلة المصرية بالسعي لإفشال تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور قائلا، "إنها تراهن على صدور حكم من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية قانون الانتخابات، وهو الأمر الذى سيؤدي إلى حل مجلس الشعب". وأضاف بكار، علمت من أطراف مختلفة أن أحزاب الكتلة المصرية لا تريد أن تتشكل الجمعية التأسيسية في ظل برلمان يحظى الإسلاميون فيه بأغلبية المقاعد، وأكد أنه في حالة حل البرلمان بعد تشكيل التأسيسية ستظل الجمعية محصنة وفقاً لنصوص الإعلان الدستورى". وانتقد بكار تصنيف أعضاء الجمعية التأسيسية بين إسلامى ومدني ، وأكد أن حزب النور كان قد أعد قائمة توافق وطني تضم شخصيات من كافة التيارات السياسية لترشيحهم في الجمعية التأسيسية، بينهم وائل خليل الناشط اليساري والدكتورة رباب المهدي الناشطة اليسارية والدكتورة هبة رؤوف عزت والدكتورة نادية مصطفى ووائل غنيم، مشيراً إلى أن هذه الأسماء لا تنتمي للتيار الإسلامي . وأضاف، "كنا قد توصلنا لاتفاق بناءً على اقتراح من الدكتور فريد زهران، أن يتم تقسيم الجمعية التأسيسية إلى نسبة 50% مدنى و50% إسلامي، لذلك لم نتقدم بقائمة التوافق الوطني التي تم أعددناها لأن ترشيحاتنا انحصرت داخل التيار الإسلامي فقط". التيارات المدنية ترد من ناحيته، أكد الدكتور رفعت السعيد، رئيس حزب التجمع، أنهم حاولوا التوصل إلى نوع من التوافق فيما يتعلق بالتأسيسية للدستور، من أجل حماية الدولة المدنية وتحقيق دستور يحقق فرص متكافئة لكل فئات الشعب، مع ضمان عدم سيطرة تيار سياسي معين على الجمعية التأسيسية ، حتى لا يصيغ الدستور وفقًا لرؤيته. وأوضح السعيد ، أنهم فوجئوا جميعًا بحساب المؤسسات الدينية والقومية (الحكومة، الأزهر-الثلاث كنائس، القوات المسلحة- النقابات المهنية- اتحاد العمال) على التيار المدني الليبرالي وخصمها من نسبة ال 50% من عضوية التأسيسية للدستور ، واصفًا ذلك ب"الانتهاك" لنسبة مشاركة ممثلي التيار المدني، وإقحام أحزاب وتيارات محسوبة على تيار الإسلام السياسي مثل حزبى الوسط والبناء والتنمية، على النسبة المخصصة للتيارات المدنية ، وهذا يخل بالتوازن الذي حرصت عليه الأحزاب المدنية ، على حد تعبيره. من جانبه ، لفت الدكتور أحمد سعيد، رئيس حزب المصريين الأحرار، إلى أن تنازل الأحزاب المدنية جاء بعد أن أصبحت النسبة المخصصة للتيارات المدنية 40% فقط ، وبعد المطالبة بعدم إقصاء أعضاء برلمان مجلس الشعب من عضوية الجمعية التأسيسية، وهو الأمر الذي علق عليه قائلًا "وكأن كفاءة نواب البرلمان لا يجب تفويت فرصة استغلالها". وقال رئيس حزب المصريين الأحرار إنه أجرى اتصالًا مع الدكتور سعد الكتاتني، رئيس مجلس الشعب، والذي طالبه خلاله بخصم 18 شخصًا من نصيب الأحزاب المدنية ولكن قوبل الطلب برفض حزبي الوسط، والبناء والتنمية الذي يعد الذراع السياسية للجماعة الإسلامية، الذي تنازل عن مقعدين مشروطين للتيار المدني ، وهو ما رفضته الأحزاب المحسوبة على التيار المدني الليبرالي . وأشار المهندس سعيد كامل، رئيس حزب الجبهة، خلال المؤتمر الصحفى إلى محاولة التيار الاسلامى أن ينال نفس الحصة التى حصل عليها فى البرلمان فى التأسيسية للدستور.. وأوضح أن نحو 28 من إجمالى 39 عضوًا بالتأسيسية سيتم إختياره محسوبًا على التيار الإسلامى من نسبة 50% الخاصة بالتيارات المدنية. ووصف كامل ذلك بأنه لا يخرج عن إطار الهيمنة لتمرير أحزاب التيارات الدينية الاسلامية ما يشاءون، مشيرا إلى وجود نوايا كثيرة غير معلنة تتعلق بالدستور من جانب التيارات الإسلامية. وشدد كامل على أن الأحزاب الليبرالية لن تقبل بأن تكون مجرد "ديكور" أو "مُحلّل" فى التأسيسية للدستور. وأعلن اتحاد النقابات المهنية في بيان وزعه خلال المؤتمر الصحفي ، رفضه لمعايير اختيار الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور، والتي تمت في ظل سيطرة تيارات الإسلام السياسي عليها. من خارج البرلمان .. يرفضون من جهته، أعلن الدكتور عمرو حمزاوى عضو مجلس الشعب عن تضامنه الكامل مع موقف حزبي المصري الديمقراطي والمصريين الأحرار الرافض لآليات اختيار ممثلي القوى المدنية للتأسيسية ثم الانسحاب من تشكيلها. وقال حمزاوى "لا أعلم إن كنت بين المرشحين للتأسيسية أم لا، إلا أننى لن أقبل بالانضمام لتشكيل يرتكب نفس أخطاء التشكيل الأول وأرفض تحصين التشكيل بقانون". وانتقد حمزاوى، عبر حسابه الشخصى على موقع التواصل الاجتماعى "تويتر"، تهميش المثقفين والنساء والشباب والمجتمع المدنى فى تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور، مؤكدًا أن تغليب الحسابات الضيقة لبعض الأحزاب المدنية لا يمكن أن يقبل به الرأى العام. وأضاف: تابعت سير المشاورات من خلال تواصل مستمر مع الدكتور أبو الغار والصديق أحمد سعيد وأثق فى تقديرهما وأرفض آليات الاختيار التى همشت الكثيرين. أعلن نجيب ساويرس، رجل الأعمال ومؤسس حزب "المصريين الأحرار"، عن رفضه التشكيل الجديد للجمعية التأسيسية للدستور، وقال فى تغريدة على صفحته بموقع "تويتر" اليوم "لن نستسلم لدستور للدولة الدينية.. لا للتكويش لا للاستبداد لا للمغالبة"، داعيًا المشاركين فى الجمعية إلى الانسحاب منها، بقوله "فلينسحب كل وطني شريف". ويبدو-وفقا للآراء سالفة الذكر- أن الاختلاف بين السياسيين في مصر لن يزيد الوضع إلا سوءا في ظل شهوة الحكم والطمع في المناصب.