راقبت، عن كثب وباهتمام كبير، عدداً من الانتخابات البرلمانية والرئاسية في بريطانيا والولايات المتحدة خلال العقدين الماضيين. لكننى لم أشهد انتخابات بالتعقيد والإثارة والثراء السياسي الذي شهدته في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة المصرية. ويمكن القول أن مصر، خلال الأسابيع الأخيرة من الحملة الانتخابية، تحولت بالفعل إلى مختبر وساحة نقاش هائلة لمسائل التدافع السياسي الكبرى في العالم العربي: سلفية وإخوانية، ثورة واستقرار، دولة مدنية ودولة عسكرية أو دينية، حكم رئاسي وحكم برلماني، ديمقراطية واستبداد، أقلية وأكثرية، وحريات ومواطنة. شارك المصريون بعشرات الملايين في هذا النقاش الصاخب، وذهبوا بعشرات الملايين ليدلوا بأصواتهم، منذ ساعات الصباح الباكر أحياناً وتحت وطأة شمس حارقة في أحيان أخرى. وبالرغم من أن نتائج الجولة الأولى بدت وكأنها تمثل مفاجأة كبرى لقطاعات واسعة من المصريين، وأثارت غضب أو إحباط قطاعات أخرى، فليس ثمة شك في أنها ستسجل باعتبارها انعطافة هامة في تاريخ مصر الحديث. هذه محاولة لاكتشاف المنطق والأسباب الهيكلية التي أدت إلى مثل هذه النتائج. ليس ثمة مفاجأة في فوز المرشح الإخواني محمد مرسي بالمركز الأول، أو أنها ليست مفاجأة ثقيلة. كان مرسي هو آخر مرشح رئاسي يدخل ساحة التنافس، ولم يتح له بالتالي سوى عدة أسابيع لتقديم نفسه ورؤيته للناخبين. ولكن الآلة الإخوانية الهائلة، التي تخوفت بعض قيادات الإخوان من أنها لن تعمل كما يجب، اشتغلت بأقصى طاقتها لمساندة مرسي وحشد القوى الشعبية من أجله. المفاجأة أن الفارق بين أصوات مرسي وأحمد شفيق، المرشح الحائز على الموقع الثاني والمفترض أن يخوض جولة الإعادة، كان ضئيلاً. والمشكلة ليست في حجم التصويت لشفيق، الذي يوصف بأنه مرشح النظام السابق، بل في حجم أصوات مرسي وتوزيعها. المفاجأة الثانية كانت في حصول حمدين صباحي، المرشح القومي - الناصري، على الموقع الثالث، بعدد كبير من الأصوات نسبياً. أما المفاجأة الثالثة فتتمثل في تراجع عبد المنعم أبو الفتوح، المرشح الإسلامي المستقل، إلى الموقع الرابع، بعدد أقل من الأصوات مما كان متوقعاً. الأسباب خلف هذه الظواهر المتعددة متداخلة إلى حد كبير. شهدت انتخابات الرئاسة في جولتها الأولى تراجعاً ملموساً في عدد من أدلوا باصواتهم عن أولئك الذين اقترعوا في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية. ففي حين بلغت نسبة المقترعين في انتخابات مجلس الشعب 58 بالمائة ممن يحق لهم التصويت، لم تتعد النسبة 46 بالمائة في الرئاسية. يمثل هذا التراجع ما يصل إلى خمسة ونصف مليون صوت؛ ولابد أن يثير قلقاً واسعاً لدى كافة القوى السياسية، التي فشلت في دفع الناخبين المصريين إلى المحافظة على مستوى التصويت الذي شهدته الانتخابات البرلمانية، بدلاً من الصراع الدائر حول مسائل هامشية ومكاسب حزبية ضيقة. المشكلة فيما يتعلق بنتائج المرشحين الإسلاميين، أن أغلب الذين تغيبوا عن انتخابات الرئاسة ينتمي إلى الكتلة التصويتية الذي ذهبت لإئتلاف النور السلفي في الانتخابات البرلمانية. ما دفع الكثير من أنصار التيار السلفي إلى الإحجام عن التصويت كان الانقسام بين شيوخ التيار بين تأييد مرسي وأبو الفتوح، وشعور عموم المتعاطفين مع التيار بأن لا ناقة لهم ولا جمل في هذه المعركة المحتدمة، بعد أن استبعد المرشح السلفي حازم أبو إسماعيل من السباق مبكراً. التراجع في عدد المقترعين، وفي عدد المقترعين من المتعاطفين مع التيار السلفي على وجه الخصوص، أوقع ضرراً مضاعفاً بالمرشحين الإسلاميين، مرسي وأبو الفتوح. والواضح، بالرغم من الجهد الكبير الذي بذله ابو الفتوح لكسب أصوات الفئات غير المؤيدة للإسلاميين أو المتخوفة منهم، أن الأصوات التي ذهبت له، مثل تلك التي اقترعت لمرسي، تعود إلى ذات الكتلة التصويتية التي أيدت إئتلافي الحرية والعدالة والنور الإسلاميين، في انتخابات مجلس الشعب. وهذه الظاهرة نفسها، ظاهرة إخفاق الإسلاميين في إقناع قطاعات شعبية مختلفة بالتصويت لهم، إضافة إلى الأخطاء التي ارتكبتها القوى السياسية والبرلمانيون الإسلاميون، والهجمة الإعلامية الهائلة التي استهدفت الإخوان المسلمين، على وجه الخصوص، منذ فوزهم في الانتخابات التشريعية، أفسحت مجالاً واسعاً لحمدين صباحي. والأرجح، بالرغم من غياب القراءات الإحصائية التي يعتد بها، أن الكتلة التصويتية التي أعطت صباحي ما يقل قليلاً عن خمسة ملايين صوت وأمنت له المركز الثالث بين الخمسة الرئيسيين، تشكلت في الحقيقة من كتلتين: الأولى، وتضم قطاعاً متنوعاً من المعادين للإسلاميين أو المتخوفين منهم، بما في ذلك شريحة صغيرة من الصوت القبطي الليبرالي. وهؤلاء في أغلبهم من المساندين للثورة ولم يخطر لهم التصويت لعمرو موسى أو أحمد شفيق. أما الكتلة الثانية، فتضم قطاعاً من المصريين العاديين، سيما من المهنيين وأبناء المناطق الحضرية الفقيرة، الذين أخذوا وعود العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر من صباحي على محمل الجد. ما غاب عن هذه الكتلة، وعلى أغلب الناخبين المصريين، أن البرامج التفصيلية التي تقدم بها المرشحون لن يكون لها تأثير كبير على مجريات الحكم والدولة، بعد أن برز ما يشبه الإجماع بين القوى السياسية المصرية على أن الدستور الجديد سيحد من صلاحيات الرئيس ويجعل ملفات الحكم الداخلية، من صحة وتعليم وإسكان، منوطة بالحكومة، التي يفترض أن تعكس توازنات القوى البرلمانية. خلال الأسابيع القليلة السابقة على يومي الانتخابات، تمت، إضافة إلى ذلك، عملية بالغة البراعة لصناعة صباحي (وليس مرسي، الذي كان واحداً من قلة قام النظام باعتقالها فجر 28 يناير/ كانون ثاني 2011، أو خالد علي، وثيق الصلة بالحراك الثوري) باعتباره مرشح الثورة. أما شفيق فقد حشدت خلفه عدة قوى، لا تنتمي كلها بالضرورة للنظام السابق، ولكن أدوات حيوية للنظام لعبت الدور الأكبر في تأمين هذا الحشد. توفرت لشفيق أموال هائلة، بعد أن اصطف خلفه قطاع ملموس من أكبر رجال الأعمال المستفيدين من النظام السابق، أو من يستشعرون خطر المحاسبة القانونية في مقبل الأيام. وقد وظفت هذه الأموال للتأثير على قطاعات واسعة من فقراء المصريين، سواء في الأرياف أو المدن الكبرى، في وقت تعاني البلاد من انخفاض كبير في معدلات النمو وارتفاع مواز في معدلات البطالة. كما لعبت شبكات قديمة ومحلية للحزب الوطني المنحل، ومتعاطفون في الإدارة المحلية (التي بقيت على ما هي عليه منذ تنحي الرئيس السابق)، ومتعاطفون آخرون في أجهزة الأمن، دوراً رئيسياً في تقديم الدعم والمساندة لحملة الفريق. ولأن طول أمد المرحلة الانتقالية ومنعطفاتها ثقيلة الوطأة، أرهقت شرائح متعددة من المجتمع المصري، أمنياً واقتصادياً وشعوراً بعدم الاستقرار، فإن بعضاً من هؤلاء بات يرجو بروز رجل دولة قوي يمكن أن يعيد للبلاد توازنها في أقصر فترة ممكنة. الفريق شفيق، الذي تكاد أن تكون ادعاءات إنجازاته جميعها من صنف الأساطير، صنعت له، هو الآخر، صورة رجل الدولة الحازم والكفؤ. كما أن الكتلة الأكبر من الصوت القبطي ذهبت لشفيق، بعد أن تخلت الكنيسة كلياً تقريباً عن عمرو موسى، الذي ظل طوال شهور المرشح المفضل في الدوائر القبطية. ولكن ما يجب تذكره في النهاية أن إنجاز شفيق، الكبير نسبياً، في الجولة الأولى من الانتخابات، حقق على حساب عمرو موسى، الذي استهدف ذات القطاعات والأدوات الانتخابية التي استهدفها شفيق، وليس على حساب أي من المرشحين الآخرين. ما حدث، أن موسى أخفق في إقناع أدوات النظام السابق، المالية والإدارية والاجتماعية، بمصداقية انتمائه لها ومصداقية وعوده بالحفاظ على مصالحها، بينما نجح شفيق في ذلك؛ بالرغم من أن الإثنين لم يكونا أعضاء في الحزب الوطني أثناء تواجدهما في السلطة. بمعنى، أن جماعات المصالح الكبرى، التي ارتبطت بالنظام وعملت ركيزة له، وضعت ثقتها في شفيق وليس في موسى. بصورة عامة، ارتكبت حملات ثلاث بين المرشحين الخمسة الرئيسيين أخطاء ملموسة، تركت أثرها على النتائج التي حصل عليها هؤلاء المرشحين. مثلاً، ظل كل من عمرو موسى وعبد المنعم أبو الفتوح على تصميمهما للحصول على الكتل التصويتية التي استهدفاها منذ بداية الحملة، مضحين بجهد ومقدرات كبيرة، بالرغم من تضافر المؤشرات على أن بعض الفئات التي عملا على كسب أصواتها قد أفلتت منهما. لا أبو الفتوح استطاع في النهاية كسب أصوات قبطية، ولا استطاع جذب أعداد ملموسة من الكتلة الليبرالية أو الفئات المتخوفة من الإسلاميين. وربما كان على موسى أن يدرك مبكراً حجم التحدي الذي مثله شفيق له في أوساط بقايا النظام السابق والفئات الموالية له، وأن يصبح أكثر جرأة وحسماً في انحيازه للثورة وأهدافها. كما أخطأ موسى وأبو الفتوح عندما قبلا في المشاركة في مناظرة ثنائية، بمعزل عن المرشحين الآخرين جميعاً؛ فقد تركت المناظرة انطباعاً لدى ملايين المشاهدين بوجود شعور مفرط بالثقة لديهما، وأضرت بصورتيهما معاً، بعد أن انفردا في هجوم كل منهم على الآخر. من جهة ثانية، أظهر محمد مرسي في بداية حملته القصيرة، إلى حد كبير، مهارة عالية، سواء في الوصول إلى عموم المصريين، أو في فهم واستيعاب والاستجابة لأجندات التنمية المحلية في كل محافظة زارها. في الأسبوع الثاني، ونظراً لحاجة الإخوان الملحة لأكبر قطاع ممكن من الأصوات السلفية، تصاعد الخطاب الديني للحملة. في الأسبوع الثالث، استعيدت اللغة السياسية مرة أخرى، ولكن بدون أن يتوفر محتوى ثقيل ومناسب للخطاب الموجه للمصريين جميعاً أو لكل منطقة على حدة، كما كان عليه الأمر في أسبوع الحملة الأول. شفيق وصباحي، وبغض النظر عن مصداقية خطابيهما، كانا المرشحين اللذين التزما برسالة واضحة ومتماسكة طوال الحملة الانتخابية. وهذا، إلى جانب أسباب أخرى، ما سيجعل معركة مرسي، وقوى الثورة المصرية الأخرى، مع شفيق، في الجولة الثانية، بالغة الصعوبة.