يقولون بأن الإنسانَ مخلوقٌ انتمائيّ، وأزعم أن جزءاً كبيراً من مشكلاتنا السياسية والاجتماعية تتعلّق فعلا بهذا الموضوع. ولكن دعونا بدايةً نقترب أكثر من مفهوم "الانتماء" في بعض نقاط: الانتماء لغةً مأخوذ من الفعل "نمَى" و"انتمى" أي انتسب الانتماء أحد الاحتياجات الهامّة للإنسان والدوافع المؤثرة في حركته، يضع العالم "ماسلو" الانتماء في الدرجة الثالثة من الاحتياجات بعد الاحتياجات الفسيولوجية "الطعام والشراب والتنفس وغيرها"، وبعد الحاجة إلى الأمان. لكل فرد دوائر عديدة من الانتماءات، منها انتماءات سياسية، واجتماعية، وفكرية، ورياضية، ومهنية، وغيرها، ويمكن تقسيم الانتماءات إلى انتماءات موروثة وانتماءات مكتسبة، والموروثة هي ما يكتسبه الفرد من بيئته ووالدَيه وهو بعدُ صغير دون إدراك كامل، وانتماءات مكتسبة تأتي لاحقا، و أن الانتماءات قد تكون مبنيّة على العقل أو العاطفة او كليهما معا. كلما زادت مساحة العاطفة في الانتماء كلما كان التمسك بالمنتمَى إليه أكبر، و بانتماء الفرد لمؤسسة يتنازل عن جزء من شخصيته وتفكيره لصالح التفكير الجمعي المشترك للمؤسسة. كما يميل الفرد دوما لإرسال رسائل داخلية لنفسه تُعزِّز من ارتباطاته وانتماءاته، حتى لا يُعطي فرصة لحالةٍ من الضيق تنشأ عن مقارنته بين انتماءاته وانتماءات أخرى قد تثبت أنها الأحسن أو الأجدر بالانتماء. ولِتجنّب حالة الضيق والقلق تلك الناجمة عن المقارنة بين الانتماءات يلجأ الفرد في بعض الأحيان لآليات وحِيَل دفاعية نفسية تسمى defense mechanisms منها: الإنكار، التبرير والمنطقة، الإسقاط، الإزاحة، الانفعال العكسي. أحد أهم الإشكاليات في التعامل مع موضوع "الانتماءات" هو فهمنا للانتماء ووضعه في مساحته الحقيقية، وقبل التفصيل ربما علينا ن ندرك أننا نتعامل مع دوائر الانتماء وفق طريقتين: الطريقة الأولى، يتم فيها ترتيب الانتماءات بالأهم فالمهم في دوائر تحتوي بعضها البعض، ويتم تقديم الأولويات والولاءات للدائرة الأكبر فالأصغر، ويتم توفيق الأخلاقيات والمبادئ من خلال ما يخدم الانتماءات. أما الطريقة الثانية، فيبقى للانتماءات المختلفة أحجام مختلفة تُؤشِّر لتمايز الأهمية، ولكن في ذات الوقت، توجد مساحات تقاطع بين بعض الانتماءات، تختفي بين البعض الآخر، وقد تكون هناك انتماءات لا تتقاطع نهائيا مع باقي الدوائر، ولكن الانتماءات مهما كبُرت أو صغُرت فهي في داخل الإطار الخارجي الحاكم وهو الأخلاق والمبادئ. قد يكون من السهل أن يدّعي كل واحد منا أنه يتعامل مع الانتماءات وفق الطريقة الثانية(شكل 2)، وإن كانت المشاهَدة المتعمّقة تؤكد أن أكثرنا يتعامل وفق الطريقة الأولى، مما يؤدي بنا إلى التعصب وعدم الإنصاف، وأننا نستسلم بالكامل لدائرة الانتماء الأكبر فالتي تليها، ويسهل علينا بعد ذلك تطويع الأخلاق والعقل والمبادئ لِمَا يؤدي في الختام لمزيد من الالتحام والانسجام مع دائرة الانتماء. لمحات قرآنية حول الانتماء: بقي أن نقول: أن الإسلام إنما قامت عقيدته على تحرير الإنسان من كل قيدٍ ليكون انتماؤه الأول هو لله عز وجل وقيم العدالة والحق والإنسانية، لِيسهُل عليه بعد ذلك أن يتعامل بتلك القيم مع أي دائرة من دوائر الانتماء المختلفة "الوطن – القومية – معتنقي ديانته – حزبه السياسي – منهجه الفكري – ناديه الرياضي – جنسه – مهنته ...."، ولعلنا في لمحات نُشير إلى بعض الآيات التي تؤكد على ذات المعنى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)، في إشارة لحادث سرقة اتُّهم فيه مسلم ويهودي، وعُرض الأمر على الرسول صلى الله عليه وسلم في سياق يُبرئ المسلم ويُدين اليهودي انتصارا من بعض المسلمين لدائرة انتمائهم الإسلامي على القيم والعدالة، فكان التوجيه من ربِّ العِزّة لنبيه صلى الله عليه وسلم بتوضيح الحقيقة، فيُدَان المسلم ويُبرئ اليهودي. نفس التوجيه تحمله الآيات في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِين). لا شك إذن أننا سنحتاج للانتماء فهو احتياج بشري ومطلب فطري، ولكننا في احتياج مُلِحٍّ لأن نضع دوائرَ الانتماء في أماكنها الصحيحة محكومة بإطار المبادئ والعقل والأخلاق لا حاكمةً عليه..