عندما شُرع الجهاد فى بداية عهد دولة الإسلام فى المدينة شُرع لكل القادرين من المسلمين، وعلى الرغم من أن أغلبية المحاربين من الرجال فإنه لم يأت نص واحد—على ما أعرف—ولو بكراهة أن يحارب الصبي أو المرأة، وإنما كان ذلك كله موكولا إلى قائد الجيش يقبل معه كل قادر على الحرب بأدوارها المختلفة الصغيرة والكبيرة، ولذا نجد عشرات الآثار فى بطولات من أطفال محاربين لا تتجاوز أعمارهم الخامسة عشر ومن نساء محاربات أيضاً. وكان المجتمع أغلبه مسلحا، وكان الأمن فى أقصى درجاته بسبب تطبيق الحدود الربانية التى ما شُرعت إلا على علم بأنها تحفظ المجتمع من الدماء مهما كانت درجة تسليح كل فرد فيه، لأن الشرع من ناحية أخرى كان رقيبا على الضمائر، فلا يحتاج رقابة على الأدوات نفسها، وكان الجميع أيضا محاربا، سواء كان الفقيه، والمحدث، والتاجر، والصانع؛ فالقتال نفسه لم يكن وظيفة، بل كان فرض عين يؤدى ويرجع منه كل فرد إلى وظيفته الأساسية. بعد انتهاء فترة الخلافة الراشدة بدأت الجيوش الإسلامية تنتظم أكثر، وفى أول تحول لنظام الحكم فى الإسلام بدأ يتبدل جيش الأمة بجيش "الخليفة"، وبدأت تحركات جيوش الخليفة تنصاع لأوامره تتولاه من دون الأمة، فهو الذى يقطع لها الرواتب ويجرى عليهم الأرزاق، وهم الذين لا وظيفة لهم إذا طردوا من الجيش مثلا، وبالتالى فإن ارتباطهم بهذه المؤسسة أصبح ارتباطا مختلفا عن ذاك الذى كان فى عهد الخلفاء والنبى صلى الله عليه وسلم. وبعد هذا المنحنى أصبح الرهان على ضمير الخليفة فإن كان صالحا فإن جيشه يُستخدم فى الصلاح، فالمرأة التى استغاثت بالمعتصم، أخرج لها جيوشه حتى أنجدتها، ولكن أحيانا كانت الجيوش تتوجه لضرب خروج ما أو تأديب منطقة ما، وتترك المعتدين على حدود الأمة نفسها يستبيحونها، لكن طالما هى بعيدة عن كرسى الخلافة فهناك ما هو أولى.! وما استشهاد الحسين بن على رضى الله عنه، ومن بعده حرب عبد الله بن الزبير واستشهاده إلا أحد تجليات استخدام العسكر فى وجه الأمة. أما إذا انطلقنا بزاوية الكاميرا وركزنا على مصر، فنجد تاريخ المؤسسة العسكرية بنقلتها الثانية بدأ مع عصر محمد على، فقبل محمد على كانت هناك جماعات عسكرية وظيفية من المماليك تشكل حامية البلاد، بالتوازي مع حالات الاستفار للجهاد عندما يداهم البلاد خطر كبير، وتجلى ذلك فى الكثير من الحملات الصليبية أوفى حرب التتار، وكان الشعب ما زال مسلحا كما هو، يشارك مشاركة أساسية فى كل المعارك الجهادية. وعندما جاء محمد على بدأ يطبق آليات الدولة الحديثة التى بدأت فى أوروبا، فبعد أول معركة مع الإنجليز خاضتها المقاومة الشعبية ببسالة مع جنود محمد على فى حملة فريزر بدأ فى التخلص من هذه المقاومة الشعبية، وفى إطار قضائه على كل الجماعات الوسيطة التى كانت تكون بوظائف متعددة فى الأمة قضى محمد على على المماليك التى كانت على رأس الجماعات العسكرية المنظمة، ثم بدأ فى خلق نظام للجيش، وبدأ فى فرض سياسة التجنيد الإجبارية، وأرغم عليها أبناء الفلاحين من المناطق النائية فى القرى والنجوع بالدلتا والصعيد بشكل قهرى، وتزامن ذلك مع جمع السلاح من الناس، حتى تصير وظيفة الدفاع والقتال مختصة بالجيش فقط، وولاء هذا الجيش للدولة وفقط. حارب جيش "محمد على" فى مناطق كثيرة ووسع ملكه، وكوّن امبراطورية ضخمة انكسرت شوكتها بعد أن وقفت أمام مشروعه القوى الغربية مجتمعة، وآل حلمه الكبير إلى حكم مصر والسودان له ولأولاده من بعده. قبل حكم محمد على بسبع سنوات قدمت الحملة الفرنسية إلى مصر، فلم تستطع الصمود أما المقاومة الشعبية بقيادة الأزهر، وانسحبت من مصر بعد ثلاث سنوات فقط، وبعدما أصبح لمصر جيش نظامى و"وطنى" ومسلح تسليحا عاليا، جاء الإنجليز إلى مصر، فاحتلوها سبعين عاما دون أن يحتدم معهم الجيش المصرى فى معركة تذكر، ودون أن يلقوا مقاومة شعبية تذكر، فالسلاح كان بيد الجيش من الناحية العملية، ومن الناحية النفسية فقط انكسر عند الناس إحساسهم أن وظيفة الدفاع عن بلدهم تخص كل واحد منهم وليس الجيش وفقط ! إذن وفق رؤية "الدولة القومية الحديثة" استمرت عجلة تحديث الدولة وإحكام قبضتها فى العالم العربى والإسلامى، وفى عهد عبد الناصر بمصر تجلت أقبح وجوه هذه الرؤية فى كل القطاعات وعلى رأسها ما فعله عبد الناصر بالأزهر حيث تم تدجينه وتحييده عن أى وظيفة تخدم الأمة بشكل مباشر نهائيا. وما كان انقلاب 52 أصلا—المرغوب به من أمريكا على أخف الروايات—إلا استمرارا لنهج الانقلابات العسكرية التى بدأت بالكماليين، وانتشرت فى كل أنحاء العالمين العربى والإسلامى من باكستان شرقا إلى مورتانيا غربا، وبدت هى أداة الغرب فى الهيمنة على الشرق الأوسط بعد زوال عهد الاستعمارات، فكان العسكر قفاز أمريكا الأول فى المنطقة لحفظ مصالحها، وحفظ ابنها المدلل (الكيان الصهيونى) فى المنطقة. وإذا جئنا لأهم محطات الجيش المصرى الحديث وبإطلالة على الحروب الكبرى التي خاضتها مصر، وأهمها حرب النكبة 48 والنكسة 67 وأكتوبر 73، فى النكبة كانت الحرب النظامية وبالا علينا، وبسبب فساد الملك استطاعت شحنة الأسلحة أن تدخل للجيش فاسدة وتدمره من الداخل، وبسببه أعطى الأوامر لكتائب لإخوان المسلمين (جماعة قتالية بالوضع الصحيح للأمة) بالانسحاب، ولو تركهم والعدو، أوساعدهم ببعض المئونة لما حدثت النكبة ! وفى النكسة الأمر غنى عن البيان، ولكن يضاف إليه أن العسكريين المحترمين يعزون أسبابها إلى فعله الجيش المصرى من فظائع وأهوال بحرب اليمن، حتى أنهم قالوا: كنا نتوقع هذا الجزاء العادل، قصاصا لما ارتكبته القوات المصرية فى اليمن ! أما فى أكتوبر النصر الأبرز للقوات المسلحة المصرية فلا أحد ينكر صبر وثبات وتفانى الجندى المصرى، لكن كل هذا الجهد تحول إلى سراب بعد تدخل القيادة السياسية، وبعد المفاوضات التى بدأت سريعا، وبعد الارتباك الذى يجعل السادات يقول: 99% من أوراق اللعبة فى يد أمريكا، ومن بعد هذه الجملة أصبح لزاما على كل جندى فى الجيش أن يسير من وقتها وإلى الآن وفق ال 99% من الإرداة والإدارة الأمريكية! وبعد المعاهدات والمداهنات، وبعد دخول حرب الخليج وبيع الغاز للكيان الصهيونى، وبعد وقوف الجيش كأحد شدقى الكماشة لكى يموت الغزاويون من ضرب شركائهم فى الشدق الآخر فى حرب غزة 2009، بعد كل هذا اتسعت الهوة بين العسكرى والمدنى، وزالت ورقة التوت الأكتوبرية عن المؤسسة العسكرية تماما. وأصبحت المؤسسة العسكرية التى من المفترض أنها بنيت—بعدانقلاب يوليو بشكل خاص—على فكرة "حماية الوطن" وهى الفكرة التى من المفترض أن يدخل الناس بها إلى الجيش، أصبحت المؤسسة فوق الفكرة، وأصبحت مصطلحات مثل الأمن القومى المصرى هى ملك لتفسيراتهم، الأمر الذى يجعل السادات يقيل سعد الشاذلى رئيس أركان القوات المسلحة قبل أن تنتهى الحرب، لأن مهمته كانت قد انتهت ساعتها فى هذه المؤسسة على أصل توجهها وأهدافها. أيمكن الآن بعد هذه التطوافة أن يكون هناك نموذجا لدمج العسكرى بالمدنى كما كان فى عهد الخلافة الراشدة، حتى لا تصل زاوية الانحراف إلى هذه الدرجة التى وصلنا لها ! وأين نموذج هذا فى حياتنا المعاصرة ؟ قبل أن أزور غزة، كانت إجابة هذا السؤال ضرب من الخيال، ولكن بعد أن قضيت أسبوعا هناك (فى 2008)، تأكد لى أن الحل الصحى المثالى الذى عاشت به الأمة قديما مطبق بشكل فذ فى غزة، فالشعب كله مسلح، والشعب كله مدنى، والأجواء أكثر أمنا من العواصم الكبرى، وجرائم القتل أقل من نسبها فى أكثر المدن أمنا حول العالم !، وواحدا من أكثر الجيوش النظامية تسليحا وتدريبا وتجهيزا على مستوى العالم يائس منها تماما، ويعتبرها الجحيم بعينه ! الكل فى غزة يرابط ليلا، يومين فى الأسبوع يتناوب عليها كل موظف أودارس أوعامل مهما كانت مهنته، كبيرا أوصغيرا ما دام قادرا على حمل السلاح، ولا يوجد من وظيفته الأساسية في أعمال المقاومة سوى نسبة قليلة جدا من قيادات كتائب القسام، والباقى كلهم متطوعون ولهم وظائفهم الأخرى فى المجتمع. وأحسب أن من يقرأ هذه الفكرة لأول مرة يتهمنا بالجنون، كيف تغيرون واقعا وصلت إليه نظم الإدارة الحديثة والمدنية..الخ، وكل هذا الكلام الفارغ، هنا هؤلاء الأشخاص يتحدثون بغير وعى عن حركة التاريخ، فكما أن أحدا من فتية القرن العاشر الهجرى مثلا كان يتخيل زوال الخلافة الإسلامية يوما ما، وكما أن أحدا بعد سقوط الخلافة حتى لم يتخيل أن مهندسان أجنبيان أحدهما يدعى سايكس والآخر ينادونه بيكو سيقسمان هذه المنطقة حدودا ثم يأتى ملايين المسلمين يقدسون هذه التقسيمة بل ويجعلونها فوق الدين والعرض، ويسفكون الدماء إذا تم التعرض لها - فإن خيالنا من باب أولى يوجب علينا أن نقول: أننا بإذن الله سنفكك الدولة القومية الحديث، وسنفكك المؤسسة العسكرية، وسنعيد التقاء المدنى بالعسكرى، وسيعود الجهاد والدفاع والمقاومة وظائف أساسية لكل الأمة بإذن الله.