لم تكن الذكرى الاولى لانطلاقة الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير، أو ذكرى سقوط الرئيس المصري المخلوع في الحادي عشر من فبراير، احتفالية تماماً. فإلى جانب مشاهد الاحتفال والدعوات إلى مواصلة الثورة إلى أن تنجز أهدافها جميعاً، كان هناك عدد ملموس من المقالات والكتابات التي تقول شيئاً آخر مختلفاً إلى حد كبير. 'كيف سرقت الثورة؟' تساءل أحد المعلقين المصريين البارزين، و'هذه لم تكن ثورة،' أعلن مثقف عربي لامع، و'الحزب الوطني يحكم من جديد،' أكد كاتب وناشط سياسي مصري آخر. للوهلة الأولى، يبدو مثل هذا التصور للثورة المصرية وكأنه مجرد انعكاس لمزاج سوداوي، سيما وأن المرحلة الانتقالية امتدت لفترة أطول نسبياً مما كان يعتقد كثيرون عندما صوت المصريون على خارطة طريق عملية الانتقال في آذار/مارس الماضي. ولكن من يتأمل هذه النصوص يدرك أن قائليها يعنون تماماً ما يقولون، وأنهم بالفعل، ولأسباب يتوسعون في سردها أحياناً، يعتقدون عن سابق تصميم وتصور أن مصر لم تشهد ثورة، أو أن الثورة المصرية تم تفريغها من محتواها بعد أن أسقطت رأس نظام الحكم السابق، وأن أوضاع البلاد السياسية تسير إلى ما قد يكون أسوأ من نظام الحزب الوطني. ليس ثمة خلاف في أن المصريين أسقطوا نظام الرئيس مبارك وحكومة حزبه، الحزب الوطني، والمجموعة الصغيرة من السياسيين ورجال الأعمال والإعلاميين والكتاب، التي استند إليها النظام. خلال الشهور التالية، حل مجلس الشعب المزور وأوقف العمل بدستور 1971، وأطاحت الحركة الشعبية بحكومة أحمد شفيق، التي عينت من قبل الرئيس المخلوع؛ ومن ثم أقر المصريون في استفتاء شعبي لا يتطرق الشك إلى صحته حزمة تعديلات دستورية وخارطة طريق لمرحلة انتقالية، كان من المفترض أن لا تتجاوز الشهور الستة. ولكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تسلم سلطات رئاسة الجمهورية، وضم إليها السلطة التشريعية بمجرد حل مجلس الشعب، اتخذ أول قراراته الخاطئة وغير المبررة عندما أصدر إعلاناً دستورياً مؤقتاً، ضم مواداً من دستور 1971 لم تكن قد طرحت للاستفتاء. الحقيقة، أن المواد الإضافية لم تكن محل خلاف أصلاً، ولكن أحداً لم يفسر للمصريين لماذا لم يبادر المجلس إلى طرح هذه المواد للاستفتاء الشعبي أيضاً. الارتباك الذي شاب الخطوة الأولى للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، سرعان ما أصبح السمة الغالبة لمعظم خطواته اللاحقة. تباطأ القادة العسكريون في الاستجابة للمطالب الشعبية، وتطلب تحقيق أي من هذه المطالب ضغطاً شعبياً كبيراً وموجة جديدة من التظاهرات. ولكن الشعب أمضى إرادته في كل الحالات. ألقي القبض على الشخصيات الرئيسة للنظام السابق، بمن في ذلك الرئيس المخلوع ورئيسان سابقان للوزراء ووزير الداخلية والقيادات الرئيسية لوزارته، وقدمت للمحاكمة بتهم مختلفة. وبالرغم من أن ملف إصلاح وإعادة بناء وزارة الداخلية يعتبر الأكثر تعقيداً بين ملفات إصلاح بنية الدولة، إلا أن خطوات ملموسة اتخذت بالفعل، تشمل حل جهاز أمن الدولة سيىء السمعة وإعادة بنائه كمؤسسة للأمن الوطني، بمهمات وصلاحيات مختلفة عن سابقه، وإحالة المئات من كبار ضباط الوزارة إلى التقاعد. كما اتخذت سلسلة من الخطوات الملموسة لإصلاح المؤسسات الإعلامية والصحافية، ليس فقط بإخراج القيادات التي عرفت بولائها للنظام السابق وخدمة مصالحه وأهدافه، ولكن أيضاً بجعل هذه المؤسسات أكثر استقلالاً عن الجهاز التنفيذي للدولة وأكثر حرية في تعبيرها عن الوقائع السياسية والاجتماعية في المجتمع المصري. من السذاجة، بالطبع، القول بأن إصلاح وزارة الداخلية ومؤسسات الإعلام والصحافة قد حققت أهدافها، ولو حتى بدرجة متواضعة. ولكن الحساسية البالغة لملفي الداخلية والإعلام جعلهما الأكثر إلحاحاً؛ وكان من الضروري التعامل معهما قبل أن تنتهي المرحلة الانتقالية وتنتقل البلاد إلى يدي حكومة منتخبة، قادرة على اتخاذ خطوات جذرية في مشروع إصلاح بنية الدولة ككل. والحقيقة، أن الدولة المصرية وصلت مستوى كارثياً من الخراب وفقدان الفاعلية، بحيث لم يعد من الممكن القول بأن أياً من قطاعاتها الرئيسية: الدفاع والأمن، السياسة الخارجية، الاقتصاد والصناعة، الداخلية والعدل، والخدمات والتعليم، يعكس مقدرات مصر ودورها. تتطور الثورات الشعبية في حالات لتقتلع نظام الحكم وجسم الدولة من جذورها؛ وفي حالات أخرى، تقتصر الثورات على إطاحة نظام الحكم والحفاظ على بنية الدولة ومؤسساتها. كان الطريق الثاني، بوعي أو بفعل الشروط الموضوعية، هو خيار الثورة المصرية. وبالنظر إلى حجم مصر وموقعها، فربما كان هذا الطريق هو الأسلم والأقصر نحو التغيير؛ فلا يوجد احد يعرف حجم الفوضى والتشظي الذي كانت ستعانيه البلاد لو أن الثورة المصرية أطاحت بالنظام ومؤسسة الدولة على السواء. ولكن هذا لا يعني بقاء مؤسسة الدولة على حالتها الراهنة. إن كان للثورة المصرية أن تأخذ البلاد باتجاه الحرية والعدل، فلابد من مشروع لإجراء إصلاح عميق في أجهزة الدولة المختلفة، وفي نظام الخدمات التي يفترض أن تتكفلها هذه الدولة. هذا، بالطبع، مشروع بعيد المدى، ولا يتطلب إصلاحات على مستوى الإجراءات والتوجهات وحسب، بل والقوانين والتشريعات وثقافة البيروقراطية المصرية كذلك. ولكن هذا شيء، واعتبار مسألة إصلاح مؤسسة الدولة الحكم معياراً للحكم على الثورة شيء آخر مختلف. خلال أشهر الصيف، كان د. يحيى الجمل، نائب رئيس الوزراء، يعمل على مسألة الدستور، أو ما بات يعرف بالمبادىء فوق الدستورية؛ بمعنى التوصل من خلال عملية غير واضحة المعالم من الحوار بين القوى السياسية إلى الاتفاق على مبادىء، تصبح جزءاً من الدستور الدائم المقبل، بدون أن تناقش في الجمعية التأسيسية التي سيختارها البرلمان لوضع مسودة الدستور. ولم يكن صعباً أن يتسرب إلى الرأي العام خلال فترة قصيرة أن أبرز المبادىء التي يشتغل عليها الجمل كانت تلك المتعلقة بموقع الجيش ودوره في الدولة المصرية الجديدة. ولكن الشكوك المتزايدة حول نشاطات الجمل وعلاقته مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة أدت في النهاية إلى تزايد الضغوط الشعبية الداعية لاستقالته. وقد وقع الاختيار، اختيار المجلس الأعلى للقوات المسلحة وليس رئيس الوزراء، على د. علي السلمي، الأكاديمي السابق ونائب رئيس حزب الوفد الليبرالي ليحتل الموقع الذي فرغ باستقالة الجمل. وإن كان للسلمي من فضيلة، فقد كانت بالتأكيد في كشف أوراقه بصورة واضحة. عمل السلمي باستقلال شبه كامل عن رئيس الوزراء، وسرعان ما طرح الوثيقة التي عرفت باسمه للمبادىء فوق الدستورية، التي تضمنت حصانة دستورية للمؤسسة العسكرية، استقلال الجيش في ميزانيته وضمان سرية الميزانية، وموقعاً مرجعياً للجيش في تقرير شؤون الدولة وتوجهاتها الاستراتيجية، إضافة إلى التدخل المباشر في تشكيل الجمعية التأسيسية وفي كتابة مسودة الدستور. كل هذا بالطبع كان مخالفاً للإعلان الدستوري ولخارطة الطريق التي أقرت في الاستفتاء الشعبي. ولأن الشعب المصري كان واعياً بخطورة ما يقوم به السلمي، فقد خرج في بداية الأسبوع الثالث من نوفمبر/ تشرين ثاني لمواجهة الوثيقة ومن هم وراءها. وليس ثمة شك أن موجة الحراك الشعبي الكبيرة في نوفمبر/ تشرين ثاني كانت حاسمة، ليس فقط في إسقاط وثيقة السلمي ودفن مخطط المبادىء فوق الدستورية، ولكن أيضاً في إطاحة حكومة شرف، وفي إجبار المجلس الأعلى للقوات المسلحة على الإعلان عن انتخابات رئاسية في يونيو/ حزيران. ولأن البلاد كانت بدأت بالفعل الانتخابات التشريعية، فقد أصبح متوقعاً أن يكون يونيو/ حزيران المحطة الأخيرة في المرحلة الانتقالية وفي دور المجلس الأعلى للقوات المسلحة في قيادة المرحلة الانتقالية. عقد مجلس الشعب أولى جلساته في يناير/ كانون ثاني، وفقد المجلس الأعلى بالتالي سلطاته التشريعية، التي عادت إلى البرلمان؛ وبانتخاب رئيس الجمهورية يفقد العسكريون سلطاتهم السيادية والتنفيذية. لم تكن رحلة سلسة، ولكنها سارت بالتأكيد في طريقها نحو بناء دولة حرة وأكثر عدلاً. أين هي المشكلة إذن، وكيف أفسحت المرحلة الانتقالية المجال بالتالي لولادة مثل هذه الرؤى السوداوية؟ يشير القائلون بإجهاض الثورة أو سرقتها أن خارطة الطريق كانت خاطئة أصلاً، وأن مصر كان لا بد أن تبدأ بكتابة الدستور قبل أي خطوة أخرى. ويقارن هؤلاء التجربة المصرية بنظيرتها التونسية، لصالح الأخيرة. الحقيقة، مرة أخرى، أن الطريق الذي سلكته تونس لا يختلف جوهرياً عن ذلك الذي أختاره المصريون. مثل مصر، ذهبت تونس لانتخاب البرلمان أولاً (بالرغم من أنها أطلقت عليه اسم الجمعية التأسيسية)، وقام البرلمان باختيار اللجنة المكلفة بوضع مسودة الدستور. من يوجهون النقد لخارطة الطريق المصرية أرادوا أن يكتب الدستور ويقر في ظل حكم عسكري، حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة؛ وهو أمر لا يليق بدولة عاشت ثورة شعبية كبرى. وهؤلاء أنفسهم، بمن في ذلك د. البرادعي شخصياً، من طرح من البداية فكرة إعطاء المؤسسة العسكرية دور الحارس للدستور والديمقراطية، وهو ما يستبطن فقدان ثقة بالشعب ونضجه واستعداده للدفاع عن حرياته التي حققها بثورته. ولا يقل وطأة أن هذه الدوائر ذاتها كان من مارس ضغطاً مباشراً على المجلس الأعلى للقوات المسلحة طوال أشهر الصيف الماضي، واستعان بواشنطن ودول الاتحاد الأوروبي، من أجل إطالة أمد المرحلة الانتقالية، بحجة أن الأحزاب الليبرالية ليست جاهزة بعد لخوض انتخابات تشريعية، وأن مرحلة انتقالية قصيرة ستصب لصالح القوى الإسلامية. وليس ثمة شك أن إطالة أمد المرحلة الانتقالية كان السبب الرئيسي خلف معظم الصعوبات التي واجهتها مصر منذ إطاحة النظام السابق. كانت المشكلة دائماً، وما تزال، هي خشية بعض، وليس كل، القوى الليبرالية والعلمانية المصرية من القوى الإسلامية. الخشية من الإسلاميين أدت إلى انهيار التوافق السياسي الشعبي، والخشية من الإسلاميين أنتجت مرحلة انتقالية طويلة نسبياً، والخشية من الإسلاميين تولد اليوم لغة سرقة الثورة وإجهاضها، لمجرد أن الأحزاب الإسلامية حصلت على أغلبية مقاعد مجلس الشعب المنتخب. ثمة ثورة كبرى اندلعت في جنبات مصر، والثورة في طريقها لإنجاز أهدافها الكبرى، بغض النظر عن هذه الخشية المرضية من الأحزاب الإسلامية.