إنهم عبيد المؤسسات، أولئك الذين يعارضون الإضراب والعصيان المدني، بدعوى الخوف من أن يضر بالبلاد أو يزعزع الأمن أو يؤثر سلباً على الاقتصاد، لقد ملكتهم المؤسسة حتى أصبحوا يعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى، وإن ادعوا أنهم مؤمنين بالله، وأقاموا له الصلوات. فهم يظلون في حقيقتهم مُشركين به بإيمانهم المُطلق بالدولة ومؤسساتها وعبادتهم لها. ونذكّرهم هنا بأن التوحيد لا يتحقق بمجرد إقامة الصلاة أو الشعائر أو العبادات، فالإيمان بالتوحيد ليس رؤية إجرائية، بل رؤية إدراكية كونية شاملة، تتحقق في الروح والقلب والعقل قبل أي شيءٍ آخر، وتتجلى بالإخلاص لله وحده دون سواه، وتتثبت بالإيمان الكامل بأن كل مقادير الكون في يديه، وأن أي شيء متعلق بقدرته ومتحقق بمشيئته، لا بدولة ولا بمؤسسة. ونلفت نظرهم إلى قول الله تعالى الذي أنزل في قريش وأضرابها، الذين أقاموا أوثانا وعبدوا أصناما من دون الله ظناً منهم أنها مصدر النفع والضرر. فيقول عنهم سبحانه «(لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف * فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)»، والمعاني التي تحملها تلك الآيات ليست فقط موجهة لقريش، بل هي لكل من خُيِّل له أن هناك من هو دون الله تتعلق به أقوات العباد، والأمن في البلاد، فالله وحده الذي يُطعم ويؤمِّن، وهو وحده مصدر الخلاص من كل استبداد وفقر وخوف وجوع، فقط إن أخلصت له العقول والقلوب والنفوس ولم تركع لأصنامٍ ومؤسسات لا تسمن ولا تغني من جوع ستكون قد عرفت الحرية. فقط إن آمنت الإيمان الحق بالآيات الأربع في سورة الإخلاص، وأخلصت في التوحيد والتعلُّق بالله تحررت وآمِنت وأُطعمت، فقط حين نثور في وجه الطغاة، سواء كان طغيانهم بادعاء شيء من ذات الله كالأصنام، أو بادعاء شيء من قدرات الله وربوبيته كالمؤسسات الحديثة، نستطيع أن نعرف أن العصيان المدني قد يجلب على الأمة ضرراً مادياً، لكنه ينعش فيها روح التحرر والثورة، والتي لا عبودية فيها سوى لله، ويدفع عنها الضرر الأكبر وهو ضرر الجاهلية؛ أن تكون الأمة مؤمنة بالله بلسانها، ولكن تجهل حقيقة نوره بأذهانها، والله أعلم.