د.مازن النجار \n\n تتفاقم كل يوم وطأة تلوث الهواء الناجم عن عادم السيارات والمركبات التي تعمل بحرق الوقود الأحفوري (البنزين والديزل)، وعن مخرجات مداخن المصانع التي تقذف بحمم من سخام الفحم الحجري والملوثات الكيميائية التي تتسبب في ظاهرة المطر الحامضي، الذي يلوث بدوره المياه السطحية والجوفية، ويتلف الأرض الصالح للزراعة، ويُلقي تنظيف البيئة منه ومعالجة آثاره أكلافاً باهظة على عاتق الاقتصاد القومي.\nوإضافة إلى تلك المصادر لتلوث الهواء، تمثل ظاهرة حرق الغابات الاستوائية والمدارية، كما يحدث في البرازيل وأندونيسيا وغيرهما، كارثة طبيعية ملحة تقتضي التصدي لها لما تتركه من دمار للبيئة وتلوث هائل للهواء وتغيرات مناخة وتصحر وفيضانات. وكان سكان بعض المناطق ذات الهواء الأكثر تلوثاً بأندونيسيا وماليزيا، قد اضطروا قبل أعوام إلى ارتداء الأقنعة الطبية المستخدمة للوقاية من تلوث الهواء، تحت وطأة التصاعد الهائل للتلوث الناجم عن حرق الغابات والذي أدى إلى اختناق البشر وعجزهم عن التنفس الطبيعي، ناهيك عن مفاقمة الحالة الصحية لمرضى الحساسية والجهاز التنفسي، مثل الربو والالتهاب الرئوي (نامونيا) والشُعَبي (برونكايتِس). \nوكانت دراسة طبية أميركية قد توصلت إلى تفسير جديد للآلية البيولوجية التي تجعل الذرات الدقيقة لتلوث الهواء، الناجم عن دخان المصانع وعادم السيارات، تطلق جلطات دموية وتتسبب بأزمات قلبية، وتفضي إلى سكتات دماغية.\nأجرى الدراسة فريق بحثي من كلية طب جامعة نورث ويسترن بشيكاغو. درس الباحثون تأثير ذرات التلوث الدقيقة على فئران المختبر، واكتشفوا كيفية قيام تلوث الهواء، المسبب لالتهاب الرئة، بالتسبب أيضاً في أمراض القلب والشرايين والوفاة.\nورغم إدراك العلماء منذ زمن لارتباط ذرات التلوث الدقيقة بارتفاع مخاطر الإصابة بمشكلات القلب والشرايين، كالأزمات القلبية والسكتات الدماغية، بقيت الآلية البيولوجية الأساسية المسببة لتلك الحالات المرضية لغزاً.\nوكانت دراسات سابقة، أجريت على البشر والحيوانات، قد خلصت إلى أن ذرات تلوث الهواء الدقيقة تؤثر على مختلف الأساليب الحيوية التي يحافظ بها الجسم على الدم في حالة سيولة طبيعية، وتحول دون نشوء الجلطات وانسدادات الأوعية الدموية، تعرف بآلية \"هيموستاسِس\" أي وقف النزف.\nاستكشاف الآلية\nفي هذه الدراسة التي أجريت على فئران المختبر، قام الباحثون باستكشاف الطريقة التي ربما تسرّع بها ذرات التلوث الدقيقة عملية التخثر أو التجلط. فقد قامت وكالة حماية البيئة الأميركية بجمع ذرات التلوث الدقيقة، من خلال عينات هواء ملوث بدخان المصانع وعادم السيارات.\nثم حُقنت رئات مجموعة من فئران المختبر بمحلول ملحي يحتوي على ذرات أصغر حجماً من 10 ميكرومتر (الميكرو: جزء من مليون جزء)، أي عُشر سماكة شعرة واحدة. أظهرت النتائج أن فترة نزيف هذه الفئران أقصر، وأن لها فترات تخثر أقصر لبلازما الدم، وارتفاع مستويات عوامل التجلط كمولد الفبرين، والعامل (إكس).\nترافقت الزيادة في عوامل التجلط مع زيادات أخرى في تفاصيل التجلط كتولد الثرومبين (خميرة التخثر)، وتسارع التخثر الشرياني، وزيادة العامل المناعي إنترلوكِن-6 في الأكياس أو الأسناخ الرئوية التي تمرر الأكسجين إلى مجرى الدم.\nبعد الحقن بأربع وعشرين ساعة، ازداد مستوى إنترلوكِن-6 بحوالي خمسة عشر ضعفاً. وهذا يفسر الزيادة الدالة والسريعة في الأزمات القلبية خلال 24 ساعة عقب التعرض الحاد لتلوث الهواء.\nكبح الاستجابات المناعية\nوعندما تمكن الباحثون من كبح الخلايا المناعية المعروفة بالملتقمات الكبيرة، والتي تهاجم المواد الدخيلة وتطلق إنترلوكِن-6 في الأسناخ الرئوية، وذلك بواسطة الحقن بعقار \"ليبوسومال كلورونيت\"، توقف التجلط.\nأما الفئران ذات الأنظمة المناعية المحورة ولا تطلق إنترلوكِن-6، فقد تمت وقايتها ضد حدوث التجلط التي تطلقها ذرات التلوث الدقيقة. وهذا يؤشر بقوة إلى إنترلوكِن-6 كقوة دافعة وراء ردود الفعل السلبية لذرات التلوث.\nخلص الباحثون إلى أن التعرض لمادة دقيقة الحجم تطلق عملية إنتاج إنترلوكِن-6 بواسطة ملتقمات الأسناخ الرئوية، مما يؤدي لفترات تخثر أقصر، وتولد ثرومبين عبر الأوعية الدموية، وتسرّع التخثر الشرياني.\nتتيح هذه النتائج آلية واعدة تربط التعرض لمادة دقيقة في البيئة المحيطة بحدوث حالات تخثر.\nوكان الباحثون قد شرعوا أيضاً في مشروع بحثي آخر لاستكشاف إمكانية استخدام جرعات منخفضة من الأسبرين لمواجهة التجلط الناجم عن إنترلوكِن-6، في ضوء قدرة الأسبرين على تحسين سيولة الدم واستخدامه كعلاج لمرضى القلب.\nأمراض القلب لدى النساء\nوكانت دراسة أخرى قد وجدت ارتباطاً ملموساً بين التعرض لذرات أو جسيمات ملوثات الهواء وبين مخاطر أمراض القلب المميتة أو غير المميتة، وكذلك النوبات القلبية لدى النساء في سن اليأس.\nأجرى الدراسة فريق بحث من جامعة واشنطن باستخدام بيانات ومعطيات من \"مبادرة صحة النساء\"، وهو مشروع قومي لمراقبة ورصد الأحوال الصحية والظواهر المرضية المستجدة من خلال متابعة قطاع سكاني كبير على مدى سنوات طويلة.\nوكانت دراسات سابقة قد أجرت تقييماً للوفيات الناجمة عن الجسيمات الدقيقة في ملوثات الهواء، وقارنت تأثيرات التعرض لها في مختلف المدن الأميركية. لكن هذه الدراسة هي الأولى التي تنظر في الارتباطات بين التعرض طويل الأمد لجسيمات حجمها أصغر من 2.5 مايكرومتر ومشكلات القلب والشرايين.\nكذلك، أظهرت أبحاث سابقة ارتباط الجسيمات الدقيقة في ملوثات الهواء بأمراض الرئة وشريان القلب التاجي، واختلاف تأثيره على النساء مقارنة بالرجال. فلديهن مثلا أوعية دموية أصغر، ولذلك فهن أكثر عرضة لمخاطر الجسيمات الدقيقة التي تذهب عميقا في الرئتين، وتسبب التهاباً يؤدي إلى أمراض وأزمات القلب.\nمنهج الدراسة\nقام الباحثون بالنظر في بيانات ومعطيات حوالي 66 ألف امرأة في سن اليأس بين عامي 1994 و1998، أعمارهن بين 50 و79 عاما، وليس لهن إصابات سابقة بأمراض القلب والشرايين. وتنتمي هؤلاء النسوة إلى 36 مركزا حضريا مختلفا.\nوتم قياس تلوث الهواء بأخذ قراءات من عدادات موضوعة قرب منزل كل امرأة مشاركة. وهذه العدادات تقوم بقياس وتسجيل مستوى الجسيمات الأصغر من 2.5 مايكرومتر في المجال الهوائي.\nوبعد فترة متوسطها 6 سنوات، فحص الباحثون السجلات الطبية للنساء المشاركات مرة أخرى، للنظر في نوع وعدد أولى مشكلات القلب والشرايين التي وقعت خلال تلك الفترة.\nثم قام الباحثون بتقدير مخاطر حدوث مشكلات في القلب والشرايين التي تضاهي الزيادات في مستوى تلوث هواء المجموعة المشاركة. وقاموا أيضا باحتساب عوامل ديمغرافية (سكانية)، ونمط المعيشة، والحالة الصحية، والتعليم، والوضع الاجتماعي الاقتصادي، والتدخين، وارتفاع ضغط الدم، ومستوى الكولسترول، ومؤشر كتلة الجسم الدال على البدانة في تقدير تلك المخاطر.\nنتائج وقياسات دالة\nأظهرت نتائج الدراسة أن حوالي 3 بالمائة من النسوة المشاركات قد توفين بسبب مشكلات القلب والشرايين أو أصبن بها، خلال فترة المتابعة. وتشمل هذه المشكلات مرض القلب التاجي، ومرض القلب والشرايين (عطب الأوعية الدموية في الدماغ)، والأزمات القلبية، وتجدبد التوعية التاجية لاستعادة وظيفة القلب، والسكتات.\nوقد تراوحت كثافة التعرض لجسيمات التلوث الدقيقة الأصغر من 2.5 مايكرومتر بين 3.4 و28.3 مايكروغرام في المتر المكعب من الهواء، بمتوسط 13.5 مايكروغرام. وقد تعرض ثلثا النسوة المشاركات تقريبا لكثافة جسيمات تفوق مستوى 15 مايكروغرام للمتر المكعب، وهو الحد الأقصى المسموح به في الهواء، حسب وكالة حماية البيئة.\nوباستخدام هذه النتائج، أظهر الباحثون أن كل زيادة في جسيمات التلوث بمقدار 10 مايكروغرام لمتر الهواء المكعب كانت مرتبطة بزيادة مخاطر الإصابة بأمراض القلب والشريين بنسبة 24 بالمائة، وزيادة في مخاطر الوفاة بها بنسبة 76 بالمائة.\nوبالنسبة لمخاطر الإصابة بأمراض أوعية المخ، فقد ازدادت بنسبة 35 بالمائة -مقابل كل زيادة تلوث بجسيمات أصغر من 2.5 مايكرومتر- مقدارها 10 مايكروغرام لمتر الهواء المكعب.\nيذكر أن هذه المخاطر التي قدرها فريق جامعة واشنطن قد جاءت أعلى من تلك التي خلصت إليها الدراسات السابقة.