لكن هذه الخطوة ستكون حمقاء وربما أحمق من تشجيع رئيس جورجيا على غزو أوسيتيا الجنوبية، وهي ستكون أشبه بمن يحرق منزلاً بأسره لمجرد إشعال سيجارته. لماذا هي حمقاء؟ لسبب مهم: الوضعية التاريخية والاجتماعية الخاصة لأوكرانيا، والتي تجعل من قطع علاقاتها مع روسيا قطيعة خطيرة مع نفسها. \r\n \r\n فأوكرانيا كانت عبر تاريخها عملاقاً مهيض الجناح، مكسور الخاطر. وهي، رغم مساحتها التي تقارب حجم فرنسا وعدد سكانها الذي يناهز الخمسين مليوناً، لم تستطع يوماً ان تكون لاعباً مستقلاً لا في الشؤون الأوروبية ولا بالطبع في العالم. إنها كانت دوماً ساحة لا وطناً. معبراً للقوى الكبرى الاجنبية لا مستقراً لقوة كبرى قومية أوكرانية ما. \r\n \r\n على مدى القرون الماضية، كانت أوكرانيا الساح التي تتقاتل فوق أرضها إمبراطوريات الشعوب الأخرى، من الروس الى البولنديين، ومن الألمان الى الليثوانيين. وحتى حين بدا مع انفجار الاتحاد السوفييتي قبل نحو 13 عاماً أن الأوكرانيين امتلكوا زمام أمورهم للمرة الأولى في التاريخ، سرعان ما تبيّن أن هذا لم يكن سوى سحابة صيف عابرة. \r\n \r\n روسيا، التي تعتبر شقيقة أوكرانيا السلافية بمثابة امتداد لها كرجليها ويديها الطبيعيتين، لم تكن (ولا هي الآن) في وارد قبول استقلال أوكرانيا عنها. وهذا شعور معنوي يتعزز بوقائع مادية على الارض، إذ إن كل شرق أوكرانيا يدين بالولاء ل"روسيا الأم"، و54 في المائة من الأوكرانيين يتحدثون اللغة الروسية، و60 في المائة يرفعون أعلام الكنيسة الأورثوذكسية الروسية. \r\n \r\n ومع مثل هذه المعطيات التي تشطر هوية أوكرانيا الى هويتين، كان من المستغرب حقاً أن تتمكن البلاد من تحقيق أي إجماع من أي نوع كان حول الطريق الذي يجب أن تسير عليه نحو اوروبا والغرب وحلف الأطلسي، كما يدعو فيكتور يوتشينكو، أو نحو روسيا والشرق ومعاهدة الأمن الجماعي، كما يطالب فيكتور يانوكوفيتش. \r\n \r\n قواعد لعنة الجغرافيا والديموغرافيا هذه، تتقاطع الآن مع القوانين الحديدية للمصالح الاستراتيجية والجيوسياسية. فالغرب الاوروبي، الذي يزعم أن اتحاده برمته يستند الى القيم الديمقراطية والانسانية، لا يريد إغضاب روسيا في أوكرانيا وقبلها في جورجيا لأسباب نفطية واقتصادية وتجارية، ولا ضم هذه الدولة الكبيرة والفقيرة إليه لما سيرتبه ذلك من أكلاف مالية باهظة. فيما الغرب الامريكي يسعى إلى دفع أوكرانيا إلى التمرد على موسكو أملاً في جعل الدب الروسي يختنق بما يلتهمه هذه الأيام من فرائس في أراضي إمبراطوريته السوفييتية السابقة. \r\n \r\n بيد أن رهانات واشنطن الجديدة لن تنجح على الأرجح. وأوكرانيا ستنفجر، إذا ما انفجرت، في وجه أمريكا قبل روسيا، خاصة بعد أن شاهد الأوروبيون الشرقيون بأم العين في جورجيا كيف يترك الامريكيون حلفاءهم في العراء ولا يتحركون لإنقاذهم سوى بعد فوات الأوان. \r\n \r\n ومن يدري؟ ربما كانت موسكو تنتظر خطأ أمريكياً آخر في أوكرانيا (كهذا الذي ارتكبه تشيني) شبيهاً بخطئها في جورجيا، لاستكمال إعادة بناء اتحادها السوفييتي، لكن من دون سوفييت هذه المرة. \r\n