\r\n إذ ان سمعة بوش والجمهوريين التي تدهورت الى الحضيض في انتخابات الكونغرس في نوفمبر، والاستنتاج الذي أجمعت عليه «مجموعة دراسة العراق»، وفحواه ان الولاياتالمتحدة بحاجة ماسة الى تحريك قواتها والنأي بها عن الصراع الطائفي العرقي الذي أشعل بوش فتيله وأذكى ناره بغزوه للعراق، وتنحية دونالد رامسفيلد عن زعامة البنتاغون واستبداله بالعضو في مجموعة دراسة العراق روبرت جيتس، الى الاستهجان والرفض الذي جوبهت به خطة المحافظين الجدد من قبل كبار القادة العسكريين الأميركيين، والقاضية بإرسال المزيد من القوات الأميركية الى العراق، الى استطلاعات الرأي التي أجريت في صفوف العسكريين الأميركيين والتي تكشف عن أن أقلية ضئيلة فحسب هي التي تؤيد سياسة بوش في العراق، ما يضفي معنى جديداً على شعار «ادعموا القوات»، كلها إشارات مترعة بالدلالات التي توحي بأن الأميركيين قد انتشلوا أنفسهم في نهاية المطاف من وهاد الغيبوبة التي منحت جورج دبليو بوش شيكاً على بياض وضوءاً أخضر ليتصرف على هواه. \r\n \r\n وعندما تسربت معلومات عن أن بوش كان يميل الى «خيارة تعزيز وزيادة» القوات، أي تدفق المزيد من الجنود والاحتفاظ بالقوات العاملة حالياً والمنشورة في العراق حتى بعد أن حل موعد استبدالهم، وأوردت «إن.بي.سي» للأنباء أن مسؤولاً كبيراً في الإدارة «اعترف لنا اليوم بأن خيار تعزيز القوات هذا إنما هو قرار سياسي أكثر منه قرار عسكري»، هي إشارة واضحة تنم عن نفاد صبر بل وسخط عارم على بوش عندما يقر مسؤول في الإدارة بأن بوش على استعداد للتضحية بالجنود الأميركيين وبالمدنيين العراقيين الأبرياء كي يحمي أضاليله وأوهامه ويموه على خداعه لشعبه. \r\n \r\n والمؤسسة الأميركية، وقد أقض مضجعها سوء إدارة بوش الفاضح والتردي الفظيع الذي تتخبط سياسته في دياجيره، تحركت أخيراً لانتزاع زمام الهيمنة على السياسة تجاه العراق منه. غير أن ما طالعتنا به الأنباء مؤخراً وما أوردته التقارير والتحليلات يوحي بأن بوش أدار ظهره للمؤسسة الأميركية وأشاح بوجهه عن نصائح مستشاريه العسكريين، وانساق بالكامل مع نهج المحافظين الجدد المقامر وانجرف تماماً مع التيار الذي يمثله اللوبي «الإسرائيلي». ومن شأن هذا أن يجر على بوش المزيد من العزلة. \r\n \r\n وفي صحيفة «الكاونتر بانش» يقدم جون وولش وصفاً جيداً للصراع بين المؤسسة الأميركية والمحافظين الجدد. \r\n \r\n وأورد بيتر سبيجل، مراسل صحيفة «لوس انجلوس تايمز» لشؤون البنتاجون في تقرير له أن المحافظين الجدد استخدموا مسألة إخفاق سياسة إدارة بوش في العراق لإقناع بوش بشن هجوم مضاد بالغ القسوة والعنف على المقاومة هناك، وبالطبع فإن مثل هذا التحرك يتطلب زيادة في عدد القوات ورفعاً لمستواها القتالي والتسليحي، وذلك لا بد أن يصاحبه توسعة لانتشار هذه القوات الى نطاق أبعد مما هو متفق عليه. \r\n \r\n ويوحي رائد جرار، الصحفي في «الكاونتر بانش» بأن الميليشيات الشيعية في العراق، مثل «جيش المهدي» الذي يقوده مقتدى الصدر، أهداف مقصودة يرومها «خيار تعزيز القوات». ويبدو أن ليس ثمة طريق أقصر يفضي الى تصعيد المواقف وتأجيج الصراع في العراق من مهاجمة الميليشيات الشيعية، التي تأبى حتى الآن مقاومة الأميركيين وتتجنب أي مجابهة معهم، فالتمرد الصغير المنبثق عن طائفة السنة فحسب، وهي الطائفة التي يقال عنها انها أقلية في العراق، صمد في وجه 150 ألف جندي أميركي وشوكته تقوى كل يوم وتشتد شراسة مقاومته، وما زال يحارب بضراوة رغم انقضاء فترة من الزمن أطول من تلك التي قاتلت فيها أميركا ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية. ولا يكاد يبدو من المجدي على الإطلاق لأي عاقل الزج بثلاثين ألف جندي آخرين في لظى هذه المعمعة، لا سيما بعد ظهور بوادر انهيار الروح المعنوية جراء تمديد فترة نشر قطعانهم. \r\n \r\n ولا يبدو أبداً اننا سننجح بفضل تعزيز القوات وزيادة عددها حين نعتزم مواجهة الميليشيات الشيعية، وأنى لنا ذلك عندما يعجز 150 ألف جندي أميركي عن إحراز أي نصر ضد الأقلية السنية. والسبب الوحيد الذي حال حتى الآن دون طرد القوات الأميركية من العراق، إنما هو عدم توحد السنة والشيعة لتحقيق هدف يجسد المصلحة العامة. ويعزى الفضل في وجود القوات الأميركية في العراق الى حالة التشرذم والتفرق التي يعيشها العرب. \r\n \r\n ولطالما وجدت القوى الاستعمارية دائماً موطئ قدم لها وثغرة كبرى تتسلل منها إلى المنطقة العربية من خلال هذه التجزئة والتفكك في الصف العربي، وإنما نجحت الهيمنة الغربية على العالم الإسلامي بفضل التنبه إلى تفادي الصدام مع العرب المتفرقين الذين تمزقت وحدتهم، وتجنب مقاتلتهم جميعاً في ذات الوقت، فما بالنا نسعى اليوم إلى توحيد جبهتهم المجزأة ضدنا؟! \r\n \r\n ومهاجمة الميليشيات الشيعية في ذات الوقت الذي يستعر فيه القتال ضد المقاومة السنية من شأنها أن تخرق هذه القاعدة. فإذا تجاهل بوش القادة العسكريين الأميركان وازدرى رأي الخبراء المحنكين وارتضى خيار «تعزيز القوات»، الذي روج له وطرحه ودعمه حلفاء المحافظين الجدد في الجناح اليميني من حزب الليكود «الاسرائيلي»، فسوف تهوى القوات الأميركية في حمأة تمرد عام هذه المرة، تمرد يعم العراق، وهذا هو السبب الكامن وراء استقالة الجنرال أبي زيد، فهو يبتغي النأي بنفسه عن المشاركة في عملية تضحية الحزب الجمهوري بالجنود الأميركان على مذبح صراع طائفي في العراق. \r\n \r\n وخلال جلسات استماع لجنة خدمات القوات المسلحة التابعة لمجلس الشيوخ ضغط السيناتور الجمهوري جون مكين، الذي يؤمن بفاعلية العنف ولا يعتقد بجدوى الدبلوماسية، على الجنرال أبي زيد ليطلب المزيد من الجنود الأميركان كي يرسلوا إلى العراق وكان رد أبي زيد كما يلي: \r\n \r\n «أيها السيناتور مكين لقد التقيت بكل قائد فيلق وفرقة وقابلت الجنرال كيسي وكبير قادة القيادة المركزية الجنرال دمبسي، وتحدثنا جميعاً مع بعضنا البعض، وتوجهت إليهم بالسؤال وقلت لهم: برأيكم المهني الصرف بصفتكم من كبار الضباط المحترفين ذوي الخبرة والحنكة، إذا جلبنا المزيد من القوات الأميركية الآن، هل يضيف هذا بصورة كبيرة ملموسة إلى قدرتنا على إحراز النجاح في العراق؟ وأجابوني جميعاً بالنفي قائلين: لا، هذا لن ينفع في تعزيز قوانا بصورة محسوسة». \r\n \r\n وبوش، شأنه شأن هتلر يلقي باللائمة في هزائمه على قادته العسكريين، وليس على سياسته الخرقاء المخبولة، ومثله مثل هتلر يحمي نفسه ويحجبها عن الحقيقة بالوهم والتضليل والخداع. ففي سويعاته الأخيرة راح هتلر يوعز بأوامره العسكرية إلى جيوش ألمانية لم يعد لها وجود كي تطرد الروس من برلين. \r\n \r\n فباستغلالهم لبوش وتسخيره لمآربهم وبإثارتهم لأزمة عسكرية من المرجح أن تفقد الولاياتالمتحدة في غمارها جيشها في العراق، يأمل المحافظون الجدد في إحياء مشروع تنفيذ خطتهم التي تتلخص في غزو الولاياتالمتحدة للشرق الأوسط وفتحه وقهره، وهم يعتقدون أن بإمكانهم استخدام الخوف و«الشرف المثلوم» ومقت الأميركيين المتشبعين بروح الرجولة في أخشن تجلياتها للهزيمة المخزية، وتوظيف هذا كله لتوسعة هذا الصراع رداً على كارثة عسكرية. ويعتقد المحافظون الجدد أن خسارة جيش أميركي يسحق في العراق ستكون ردة فعل الناخب الأميركي عليها مطالبته بالانتقام، وستسقط عندها الحواجز التي تحول من دون فرض التجنيد الإجباري، كما ستنهار الموانع والتحفظات التي تحظر استخدام الأسلحة النووية. \r\n \r\n وكان عرّاب المحافظين الجدد نورمان بودهوريتز قد بسط خطة فتح الشرق الأوسط وإخضاعه وقهره منذ عدة سنوات في مجلة «كومنتري»، وهي خطة إبادة جماعية للمسلمين، وبدلاً من الاجتثاث الجسدي للمسلمين بالمعنى المادي الحرفي للكلمة واستئصال شأفتهم، يؤيد بودهوريتز تدمير مادة الإسلام البشرية الكبرى، الا وهم العرب بتجريدهم الكامل من ثقافتهم، بل واستئصال هذه الثقافة من جذورها، وسيتم بمقتضى هذه الخطة تمزيق الإسلام واقتلاعه من أصله وتحنيطه ليقتصر على قوقعة رسمية، أي هيكل أجوف خاو من المحتوى والمضمون ومفرغ من كل المعتقدات الربانية الحقيقية. \r\n \r\n ويموه بودهوريتز على هجمة المحافظين الجدد على التنوع ويخفي عداءهم المر للاختلاف والتنوع الثقافي، بقناع زائف من الجدل الملتوي والحذلقة اللفظية المتكلفة والتلاعب اللغوي المصطنع، غير أن الغاية الحقيقية من وراء هذه الهجمة إنما هي تسخير الآلة العسكرية الأميركية لقهر العرب وإخضاعهم ولخلق فضاءات جديدة ل «إسرائيل» كي تتوسع. \r\n \r\n ومما يثير كوامن الحزن والحسرة ان ليس ثمة ما يكفي من الأميركيين الذين يعون ويدركون أن هذه الروح العدائية الاستئصالية هي كل الفلسفة التي تشكل جميع مقومات «الحرب على الإرهاب».