بل واصلت التخصيب مستخدمة المزيد من أجهزة الطرد المركزي حتى ظن البعض في الغرب أن إيران باتت على وشك تفجير قنبلتها النووية الأولى ودخول النادي النووي من أبوابه الواسعة. وبالطبع لم يكن بوش راغباً في مغادرة البيت الأبيض، وهو يجر وراءه خيبة حرب العراق المتعثرة كتركة لولايته الرئاسية الأولى، وإيران نووية كتركة لولايته الثانية. لذا جاءت كلماته حادة بعض الشيء عندما حذر نهاية شهر أكتوبر الماضي من هولوكوست نووية لا تبقي ولا تذر، ولم يتردد في هذا الإطار أيضاً من دق ناقوس خطر حرب عالمية ثالثة إذا ما أصرت إيران على امتلاك السلاح النووي. \r\n \r\n ويبدو أن الرئيس بوش الذي أدرك عقم سياسته الخارجية وفشلها على أكثر من جبهة سواء في العراق، أو في أفغانستان، أو بمنطقة الشرق الأوسط عموماً، قد فكر أن الحل ربما يكمن في مغامرة أخرى كمحاولة منه للهروب إلى الأمام. غير أن حساب البيدر اختلف عن حساب الحقل بعدما أصدرت ست عشرة وكالة استخباراتية أميركية في بداية شهر ديسمبر الجاري تقريراً تشير فيه إلى وقف طهران لبرنامجها النووي الموجه لأغراض عسكرية في العام 2003. ووفقاً لهذا التقرير توصلت أجهزة الاستخبارات الأميركية إلى نتيجة مشتركة تضفي المزيد من المصداقية على التقرير وتستبعد صفة التواطؤ كما ذهب إلى ذلك بعض أركان الإدارة الأميركية. ويرى التقرير أن إيران التي أوقفت برنامجها العسكري في العام 2003 لا تستطيع استئنافه وتحقيق النتائج المرجوة خلال وقت وجيز، بل يتعين الانتظار إلى غاية 2015. ومع ذلك كرر بوش موقفه السابق مشدداً على أن إيران \"مازالت دولة خطيرة وستبقى خطيرة في المستقبل إذا ما تمكنت من حيازة السلاح النووي\". \r\n \r\n والواقع أن الرسالة التي بعثت بها هيئة الاستخبارات الوطنية الأميركية كانت واضحة لا لبس فيها، وهي أنها لا تريد تحمل مسؤولية حرب أخرى ضد إيران على غرار العراق عندما وجهت إليها تهم التقصير في جمع المعلومات الدقيقة حول أسلحة الدمار الشامل التي ثبت عدم وجودها. واللافت أن أجهزة الاستخبارات الأميركية التي قامت بالعديد من العمليات القذرة في مناطق العالم المختلفة، وتدخلت لصالح أنظمة بعينها تقود هذه المرة التيار المعتدل في السياسة الأميركية وتقف في وجه \"صقور\" البيت الأبيض الذي يريدون تنفيذ أجنداتهم حتى لو استدعى الأمر لي عنق الحقائق وتوظيف المعلومات الاستخباراتية المغلوطة. وهكذا استنفر النقاش الذي أثاره تقرير الاستخبارات الأميركية جهود \"المحافظين الجدد\" الذين يميلون إلى تغليب المبادئ الأيديولوجية على الحقائق في اختلاف واضح عن زملائهم الواقعيين داخل الإدارة الأميركية الذين يفضلون الاعتماد على الوقائع كما هي دون إخضاعها لاعتبارات أيديولوجية. \r\n \r\n يمكن تفادي الأسوأ في البرنامج النووي الإيراني باعتماد النموذج الكوري الشمالي الذي يعطي طهران ضمانات أمنية مقابل تخليها عن برنامجها النووي. \r\n \r\n ولا ننسى أن التقرير الصادر عن هيئة الاستخبارات الأميركية جاء ليثبط عزيمة فرنسا وبريطانيا اللتين ألقتا بكل ثقلهما وراء أميركا وقرعتا طبول الحرب معها. لكن الضربة الأهم الناتجة عن صدور التقرير وجهت إلى إسرائيل التي تعتبر امتلاك إيران للسلاح النووي خطراً وجودياً لا يمكن التغاضي عنه. وتختلف أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في تقييمها للموقف عن مثيلتها الأميركية، إذ تعتبر أن إيران لم توقف برنامجها النووي العسكري، وبأنها مازالت تسعى إلى الحصول على السلاح النووي. ومع ذلك تجد الدولة العبرية نفسها عاجزة عن الدفع برأيها قدماً، أو ممارسة ضغوط على الولاياتالمتحدة بعد صدور كتاب الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر \"السلام لا فصلاً عنصرياً\"، وكتاب آخر عن دور اللوبي الإسرائيلي في توجيه السياسة الخارجية الأميركية، فضلاً عن النقاش الدائر في أميركا حول مدى تطابق المصالح القومية الأميركية مع المصالح الإسرائيلية، والحاجة إلى الربط بينهما كما يدعو إلى ذلك اللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة. وهكذا بدأت بعض الأصوات ترتفع في أميركا متسائلة عن الثمن الذي يتعين على واشنطن دفعه مقابل الاستمرار في دعمها غير المشروط لإسرائيل. \r\n \r\n وفي هذا السياق أصبح من الصعب على إسرائيل الظهور وكأنها تسعى إلى لي ذراع أميركا للدفع بها إلى خوض حرب أخرى ضد إيران قد تكون كارثية. فإذا تبين أن الحرب فاشلة، على غرار ما حصل في العراق، وتورطت أميركا في مستنقع آخر، ستتحمل إسرائيل المسؤولية ما سيؤثر على العلاقات الوثيقة بين البلدين. كما أنه عندما تدلي الاستخبارات الأميركية برأيها المستند إلى معلومات موثقة يصعب على الإدارة الأميركية واللوبي اليهودي تبرير الحرب على إيران، أو اعتبارها حاجة ماسة للحفاظ على مصالحهما الاستراتيجية. ويبدو أن ما تشدد عليه الاستخبارات الأميركية من خلال تقريرها الأخير هو أنه مازال هناك متسع من الوقت للحوار والتفاوض، وهو ما يُصعِّب على إسرائيل الدفع في اتجاه الحرب وتحمل مسؤولية ما قد ينجم عنها. \r\n \r\n فالجميع يعرف أن شن حرب على إيران، حتى لو استهدفت مواقع محدودة، لن تبقى تباعاتها محصورة في نطاق ضيق، بل ستؤثر على منطقة الخليج برمتها مع تداعيات استراتيجية كارثية على الصعيد العالمي. وإذا كانت حيازة إيران للسلاح النووي ستغير الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط بعد أن ينتهي الاحتكار الإسرائيلي لهذا السلاح في المنطقة وتنامي المخاوف المشروعة للدول العربية المجاورة، فإنه يمكن مع ذلك تفادي الأسوأ باعتماد النموذج الكوري الشمالي وتغليبه على المثال العراقي. هذا النموذج الذي يسمح لطهران بالحصول على ضمانات أمنية بعدم تغيير النظام مقابل تخليها عن برنامجها النووي. \r\n \r\n \r\n