ومن جرائها، أوقفت أعمال النهب وإحراق السيارات وقذف أفراد الشرطة بالزجاجات الحارقة والمتفجرة، لوس أنجلوس كلها على قدم واحدة ولم تقعدها من هول ما حدث. وتخوف أفراد الطبقات الوسطى من البيض، أن يقتحم الشباب السود الغاضبون أحياءهم ومنازلهم، فينشروا فيها القتل والنهب والدمار. ثم سرت عدوى العنف نفسها شمالاً، وقد أدى تصاعدها إلى إحراق مساحات شاسعة من الأحياء والمدن التي يسكنها السود، في كل من نيوارك وواشنطن ونيويورك وشيكاغو وفيلادلفيا، وغيرها من المناطق والمدن الشمالية الأخرى، على إثر اغتيال مارتن لوثر كينج زعيم حركة الحقوق المدنية، الذي أفنى حياته كلها في الدفاع عن فكرة إدماج الأميركيين السود في نمط الحياة العامة الأميركية. وكانت معظم أحداث العنف قد استهدفت الأميركيين البيض وأحياءهم وأماكن عملهم، بسبب إقصاء البيض للشباب السود وحرمانهم من فرص العمل التي تمثل حقاً أساسياً من حقوق الحياة والمواطنة. وقتها كان معدل البطالة في أوساط الشباب الأميركيين السود يقدر بنحو 22 في المئة، أي بضعف ما كان عليه المعدل نفسه بين أقرانهم البيض. \r\n وقبل ذلك ببضع سنوات فحسب، كان زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كنج قد ألقى بواحدة من أعظم الخطب السياسية التي شهدها تاريخ بلادنا، أمام النصب التذكاري للرئيس الأسبق أبراهام لنكولن وفيها قال: ''يراودني حلم بأنه سيأتي اليوم الذي ترتقي فيه أمتنا لتجسد المعنى الحقيقي لعقيدتها في حياتها اليومية. ذلك أننا نؤمن جميعاً بأننا خلقنا متساوين... كما يراودني حلم بأن يعيش أطفالي الأربعة يوماً ما بين أمة لا يأبه إليهم فيها انطلاقاً من لون بشرتهم ولا أشكالهم، وإنما بخواص شخصياتهم ومضمونها''. \r\n وبالمثل نرى اليوم الشباب الفرنسيين -الذين يشكل المسلمون المهاجرون غالبيتهم- وهم يشعلون النيران في السيارات والمدارس، ويطلقون النيران على أفراد قوات الشرطة، فيما يبدو أنه تعبير عفوي عن مشاعر الاستياء والغضب، إزاء مجتمع أدار ظهره لهم. ومثلما كانت عليه معدلات البطالة في أوساط الشباب الأميركيين، الذين يسكنون في الغيتو الأميركي خلال عقد الستينيات، فإن معدلات البطالة في أوساط المهاجرين المسلمين الشباب في الغيتو الفرنسي، تعادل ضعف معدل البطالة العام، بين أقرانهم الفرنسيين البيض، حيث تصل إلى نسبة تتراوح بين 40-50 في المئة في بعض المناطق والأحياء السكنية. والملاحظ أن هؤلاء المشاغبين هم أبناء وأحفاد أولئك الذين هاجروا إلى فرنسا من مستعمراتها السابقة في إفريقيا، قبل عدة عقود. وبسبب الفقر المدقع الذي يعيشون فيه، وبسبب نقص تعليمهم وضعف فرصهم في الحصول على الوظائف، وإقصاء المجتمع الفرنسي لهم، فقد أطبق عليهم اليأس من كل جانب، وما عادوا يتطلعون إلى يوم يمكن أن يتغير فيه نمط حياتهم، ويخرجوا فيه من بؤس غيتو مجتمعهم. \r\n وعند النظر إلى هؤلاء الشباب الغاضبين بعين المقارنة مع أندادهم البيض المنتمين إلى الطبقات الوسطى، من خريجي الكليات والجامعات -سواء في فرنسا أم على امتداد القارة الأوروبية بأسرها- فإنك تجد أن أندادهم البيض هم الذين يتمتعون بفوائد ومزايا ''الحلم الأوروبي'' الذي يفرد اهتماماً خاصاً لمستوى ونوعية حياة المجتمعات والمواطنين الأوروبيين، ولحرية التنقل والحركة، وللحقوق الاجتماعية والإنسانية للأفراد والجماعات، وكذلك لقيم التنمية المستدامة وبناء السلام. وبما أن كل هذه المزايا لا تنطبق بأي حال من الأحوال على واقع الغيتو الفرنسي، فإن ذلك يعني أن فرنسا لا تزال بانتظار مارتن لوثر كنج خاص بها، أي زعيم فرنسي للحقوق المدنية، يجهر بصوته عالياً وبالكلمات ذاتها ''يراودني حلم بأنه سوف يأتي اليوم الذي يعيش فيه كل مواطن فرنسي، مسلماً كان أم مسيحياً، أبيض أم أسود، مع بقية المواطنين، في مجتمع تسوده المساواة والتكافؤ بين الجميع''. \r\n وعلى النخبة الفرنسية الحاكمة أن تصغي جيداً لما يقوله شبابها المسلمون الغاضبون. ومن خلال عدة لقاءات صحفية، أجريت مع عدد كبير من شباب المسلمين الغاضبين، تردد الحديث نفسه من جانبهم عن أنهم مواطنون فرنسيون وفقاً لنصوص الدستور والقوانين. لكن مع ذلك فإنهم لا يتمتعون بالحقوق ولا بالاحترام نفسه، الذي يتمتع به الفرنسيون الآخرون. وكم هي قوية الأصداء نفسها التي رددها عدد كبير من شباب أميركا اللاتينية وغيرهم من السود هنا في غيتو مدننا ومناطقنا الحضرية في ستينيات القرن الماضي! \r\n ولكن الفارق أن وضع شباب الغيتو الأميركي قد انحدر من سيئ إلى أسوأ خلال الأربعين سنة الماضية، خلافاً لوضع أندادهم الفرنسيين، الذي لا يزال يحمل بعضاً من التفاؤل والأمل في التحول نحو الأفضل. وأقل هذا الأمل أن الشباب الفرنسيين لا يزالون يطالبون بإدماجهم في المجتمع الفرنسي، وبأن يكونوا جزءاً أصيلاً منه. أما هنا في أميركا، فلم يعد الشباب يأبهون لمطالب كهذه مطلقاً. فما أحرزته حركة الحقوق المدنية في عقدي الخمسينيات والستينيات من مكاسب وحقوق مثل: إلحاق التلاميذ الفقراء السود بمدارس الطبقات الوسطى البيضاء، وبرامج العمل الإيجابي -التي هي نوع من أنواع التمييز الإيجابي للسود- بقصد تحسين فرص حصول السود على الوظائف، وكذلك برامج تكثيف التعليم ما قبل المدرسي في أوساط السود، وغيرها من خطط وبرامج ومبادرات استهدفت في الأساس تحسين مستوى حياة الأميركيين السود، كلها قد تراجعت وانحسرت رويداً رويداً خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات. \r\n واليوم فإن مستوى حياة غالبية الشباب الأميركيين السود، بالكاد أفضل مما كانت عليه حياة أقرانهم في عقد الستينيات. فقد ضربت معدلات البطالة في أوساطهم أرقاماً قياسية. والأسوأ من ذلك أن الإحصاءات تقول إن 30 في المئة من الذكور الشباب من هؤلاء -ممن هم في عشرينات العمر- إما في انتظار المحاكمات، أم أنهم يقضون فترات إطلاق سراح مشروط، بسبب جرائم متعددة ارتكبوها! والشاهد أننا أهملنا مناقشة أوضاع الأقلية السوداء في مجتمعاتنا لفترة طويلة من الزمن، في حين يزداد الأغنياء غنى والفقراء فقراً. وبالنتيجة، فإنه ليس ثمة ما يجب أن يدعو للدهشة أو الاستغراب، أن تأتي استجابة الكثير من شبابنا السود للسؤال عما إذا كانوا يرغبون في أن يكونوا جزءاً من ''الحلم الأميركي'' ألفاظ سخرية واحتقار وازدراء لمن يوجه السؤال. بل ليس مستغرباً أن يكفر الكثيرون منهم بعبارة ''الحلم الأميركي'' نفسها، وأن يتبعوا سماعهم لها بألفاظ نابية، تنم عن احتقار عميق للفكرة كلها. وهكذا حل اليأس والإحباط والميل إلى حياة الجريمة والعنف وعالم المخدرات بين الشباب السود اليوم، محل تلك الرغبة العظيمة والحماس الكبير للانضمام إلى ''الحلم الأميركي'' بإيحاء وإلهام حركة الحقوق المدنية التي قادها الزعيم الأميركي الأسود مارتن لوثر كنج، في عقد الستينيات. \r\n وما نخلص إليه من كل هذه المناقشة حين نعود مرة أخرى إلى فرنسا، أنه وفيما لو تحولت أعمال الاحتجاج العفوي هذه من قبل شباب الغيتو الفرنسي، المطالب بالانضمام إلى جسد المجتمع الذي ينتمي إليه، إلى عمل وعصيان سياسي منظم، فإن فرنسا كلها ستكون قد انزلقت إلى مهاوي خطر عظيم. وبالقدر ذاته فإن من السذاجة بمكان أن نركن إلى قناعة مطمئنة كسولة، بأن ما حدث في فرنسا، هو خاص بها وقاصر على حدودها الجغرافية والسياسية وحدها. \r\n