إلا أن ما يميز عنان هو أنه أول أمين عام إفريقي ينحدر من جنوب الصحراء. ولد عنان في إحدى المستعمرات البريطانية التي كانت تعرف وقتها ب\"ساحل الذهب\"، حيث كان والده أحد الزعماء البارزين في المستعمرة. وما أن اشتد عوده حتى أرسله والده للدراسة في الولاياتالمتحدة ثم سويسرا، حيث حصل على درجة الماجستير في الإدارة من معهد مساشوسيتس للتكنولوجيا. ويعتبر عنان أول أمين عام يصل إلى القمة من خلال تدرجه في المناصب المختلفة للأمم المتحدة. وقد كان المنصب الذي شغله كمدير لعمليات حفظ السلام الخطوة التي قذفت به إلى سماء الشهرة داخل ردهات المنظمة، حيث لمع نجمه كمدير جيد جعل من قسمه الأفضل والأكثر فاعلية بين باقي الأقسام في الأممالمتحدة. \r\n \r\n وقد تسنى لي شخصياً الجلوس إلى كوفي عنان خلال عدة مناسبات في لندن عندما كنت سنة 1997 رئيسا للفريق البرلماني البريطاني المكلف بالتنسيق مع الأممالمتحدة. وشملت تلك اللقاءات دعوة غداء نظمها على شرفه المكتب الخارجي للأمم المتحدة، حيث قام هذا الأخير ببذل جهود جبارة في سبيل حشد التأييد لكوفي عنان، وتنصيبه على رأس المنظمة الأممية. وقد ترك عنان انطباعاً جيداً من خلال تلك اللقاءات إذ اتسم بدماثة الخلق والذكاء المتوقد الذي تشاركه فيه زوجته السويدية الجميلة. وما زلت أذكر كيف أعجب به الجميع لما أظهره من موهبة فائقة كرجل دولة. أما اليوم وقد ارتفعت الأصوات من حوله مطالبة بتقديم استقالته فإن كوفي عنان يجد نفسه في وضع لا يحسد عليه. وترجع الأزمة الحالية التي يمر بها الأمين العام للأمم المتحدة إلى ذلك التقرير المدوي الذي أعده بول فولكر، الرئيس السابق للبنك المركزي الأميركي (الاحتياطي الفيدرالي) وأصدره في السابع من الشهر الجاري يستعرض فيه فضيحة الفساد التي شابت البرنامج الأممي للنفط مقابل الغذاء في العراق. وبالطبع أدى التقرير الذي يحتوي على حقائق مخيفة إلى إضعاف موقف عنان، في الوقت الذي تتهيأ فيه الأممالمتحدة للاحتفال بالذكرى الستين لتأسيسها، مع ما سيتخذ من قرارات مهمة ينتظر أن تحسم مستقبل المنظمة. \r\n \r\n وقد جاء التقرير الذي أعد خصيصاً كي يعرض على مجلس الأمن حافلا بكل ما هو سلبي حول برنامج النفط مقابل الغذاء، وخالياً من أي تقريظ للبرنامج الأممي المذكور. فالبرنامج الذي بلوره بطرس بطرس غالي، وضع بطريقة تسمح لصدام حسين بتوظيفه لأغراضه الشخصية. وقد نقل التقرير على لسان فولكر أن بطرس غالي وضع البرنامج ببراعة متناهية \"وأنه بمثابة عهد مع الشيطان الذي عرف كيف يستغله أسوأ استغلال\". كما تحدث التقرير عما أسماه ب\"الغياب الذريع\" للتدقيق المالي الفعال، فضلا عن وجود \"أمثلة واضحة عن تصرفات فاسدة وبعيدة عن القانون والأخلاق\". ولعل الفشل الأبرز الذي سقط فيه كوفي عنان ليس هو التواطؤ في عملية الفساد، بل إغفال وجودها، خصوصا عندما فشل في إجراء تحقيق بشأن الانتقادات التي كيلت لابنه، والدور المحتمل للجهات التي يعمل معها. فقد قام ابنه كوجو باستخدام علاقاته في الأممالمتحدة للحصول على عقد في العراق لصالح الشركة التي يعمل معها، وقد شملت علاقاته تلك مساعدة شخصية من والده. وبعدما طفت الأزمة إلى السطح انصبت انتقادات فولكر وزملائه على سوء إدارة الأممالمتحدة من قبل كوفي عنان. فبالرغم من المسؤوليات الواسعة التي يضطلع بها، إلا أن كوفي عنان ومعاونيه فشلوا في التغلب على الأزمة وطيها. لذا جاء التقرير مطالبا بقيادة أقوى للأمم المتحدة وإصلاحات جذرية تمس النواحي الإدارية، بالإضافة إلى مراقبة فعالة للبرامج المختلفة للمنظمة. وجاء التقرير صريحا في نبرته الهجومية حيث نعت النائبة الكندية للأمين العام لويس فريشت بأنها \"تصرفت بغير ما يتطلبه الموقف من قيادة وبعد نظر\". \r\n \r\n وإذا كانت كافة الأضواء قد سلطت على كوفي عنان، فإن ما يجب عدم إغفاله هو اللوم الذي يستحقه مجلس الأمن بتغاضيه عن الشركات الخاصة التي لم تنل ما تستحقه من انتقاد على الفساد الذي ثبت عليها. ولكي نكون منصفين ومتوازنين في نظرتنا للأمور فإني أتفق مع الحكومة البريطانية في أن كوفي عنان ليس مطالبا بالاستقالة من منصبه. وهو الرأي الذي يلقى معارضة شديدة من قبل بعض الأطراف الذين يعتبرون الأمين العام المسؤول الأول والأخير عما يجري في الأممالمتحدة. وللتذكير فقط لم تثبت أية تهمة فساد في حق عنان ما عدا ابنه الذي تورط بشكل مخزٍ في عمليات مريبة. أما فيما يخص المشاكل الإدارية المستفحلة داخل المنظمة فهي ليست وليدة اللحظة، بل هي مشاكل مزمنة فشل أسلاف كوفي عنان في حلها. ولعل المشكلة الأساسية في نظري تكمن في أن منظمة دولية كبرى بحجم الأممالمتحدة غير مهيأة لمراقبة مشاريع ضخمة مثل برنامج النفط مقابل الغذاء الذي وصلت تكلفته الإجمالية إلى 64 مليار دولار. \r\n \r\n واليوم مع انعقاد القمة العالمية لقادة الدول الأعضاء في الأممالمتحدة بنيويورك تبرز الفرصة مجددا لمعالجة كافة المشاكل التي تعاني منها المنظمة، ولطرح مختلف الرؤى حول أفضل السبل لإصلاح الهياكل الأممية. لذا فإنه سيكون من غير المناسب أن يستقيل عنان من منصبه في ظل هذه الأحداث المهمة التي ربما قد تعيد صياغة الأممالمتحدة على أسس جديدة أكثر عدلا وتمثيلا للقوى العالمية. كما يجب ألا ننسى أن الانتقادات المتصاعدة لكوفي عنان والمطالبات المتكررة باستقالته تندرج في سياق الرغبة الأميركية في الثأر للنفس من الأمين العام للأمم المتحدة الذي عارض الحرب على العراق، خصوصا عندما وصم تلك الحرب، في أحد اللقاءات التي أجرتها معه هيئة الإذاعة البريطانية، بأنها \"غير قانونيه\". لذا يتعين على قادة الدول في اجتماعهم بنيويورك أن يبحثوا سبل دعم كوفي عنان لكي يتمكن من مواصلة مسيرته الإصلاحية. وفي حال فشلت الوفود المشاركة في الوصول إلى اتفاق حول رؤية موحدة للإصلاح، فإن أزمة الأممالمتحدة ستتفاقم أكثر في المستقبل مهددة بتقويض دورها الرائد في فض النزاعات وحفظ الأمن والسلام العالميين.