توافد آلاف المصلين على ساحة مسجد السلطان لأداء صلاة عيد الأضحى المبارك    توافد المصلين لأداء صلاة عيد الأضحى المبارك بساحات الجيزة.. صور    الألاف يصلون صلاة عيد الأضحى في مجمع أبو العباس بالإسكندرية    عيد الأضحى 2024| توافد أهالي وزوار مطروح على الساحات لأداء صلاة العيد.. صور    القنوات الناقلة لمباراة إنجلترا وصربيا في كأس أمم أوروبا يورو 2024    ترتيب هدافي الدوري المصري قبل مباراة المقاولون العرب وطلائع الجيش    إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم على طريق بحيرة قارون السياحي بالفيوم    بالصور.. الآلاف من أهالي الإسكندرية يؤدون صلاة العيد في أكثر من 200 ساحة    بالصور والفيديو.. توافد الآلاف من المصلين على مسجد خاتم المرسلين بالهرم لأداء صلاة العيد    عاجل - بث مباشر شعائر صلاة عيد الأضحى المبارك 2024 من مسجد السيدة زينب    بسبب صلاة العيد، زحام مروري بمصر الجديدة (فيديو)    بدء توافد مواطني الأقصر على ساحة أبو الحجاج لأداء صلاة عيد الأضحى (بث مباشر)    محمد رمضان يحقق 80 ألف مشاهدة بأغنية العيد "مفيش كده" في ساعات    الاحتلال يمنع الفلسطينيين من دخول المسجد الأقصى قبيل صلاة عيد الأضحى (فيديو)    الرئيس السيسي يشيد بحسن تنظيم السلطات السعودية لمناسك الحج    الأرصاد: درجات الحرارة على محافظات الصعيد أول أيام العيد تصل إلى 48    العليا للحج: جواز عدم المبيت في منى لكبار السن والمرضى دون فداء    الحجاج يرمون جمرة العقبة الكبرى فى مشعر منى    حماس: نتنياهو يراكم كل يوم العجز والفشل.. والحقائق تؤكد انهيار جيش الاحتلال    قوات الاحتلال تمنع مئات الفلسطينيين من الوصول إلى المسجد الأقصى لأداء صلاة الفجر    أنغام تحيي أضخم حفلات عيد الأضحى بالكويت وتوجه تهنئة للجمهور    محافظ جنوب سيناء يشارك مواطني مدينة الطور فرحتهم بليلة عيد الأضحى    ريهام سعيد: «أنا عملت عملية وعينيا باظت ومش محتاجة حد يصدقني» (فيديو)    لإنقاذ فرنسا، هولاند "يفاجئ" الرأي العام بترشحه للانتخابات البرلمانية في سابقة تاريخية    الجمعية المصرية للحساسية والمناعة: مرضى الربو الأكثر تأثرا بالاحترار العالمي    ريهام سعيد: محمد هنيدي تقدم للزواج مني لكن ماما رفضت    ننشر موعد صلاة عيد الأضحى المبارك لعام 1445ه‍    تعرف على سنن وآداب صلاة عيد الأضحى المبارك    عيار 21 الآن وسعر الذهب اليوم في السعودية الاحد 16 يونيو 2024    متلازمة الصدمة السامة، ارتفاع مصابي بكتيريا آكلة اللحم في اليابان إلى 977 حالة    دعاء لأمي المتوفاة في عيد الأضحى.. اللهم ارحم فقيدة قلبي وآنس وحشتها    موعد صلاة عيد الأضحى المبارك في القاهرة والمحافظات    93 دولة تدعم المحكمة الجنائية الدولية في مواجهة جرائم إسرائيل    «الغرف التجارية»: زيادة الاحتياطى يزيد من ثقة المستثمرين    «الموجة الحارة».. شوارع خالية من المارة وهروب جماعى ل«الشواطئ»    أثناء الدعاء.. وفاة سيدة من محافظة كفر الشيخ على صعيد جبل عرفات    «التعليم العالى»: تعزيز التعاون الأكاديمى والتكنولوجى مع الإمارات    تأسيس الشركات وصناديق استثمار خيرية.. تعرف علي أهداف عمل التحالف الوطني    كرة سلة.. عبد الرحمن نادر على رأس قائمة مصر استعدادا للتصفيات المؤهلة لأولمبياد باريس    مش هينفع أشتغل لراحة الأهلي فقط، عامر حسين يرد على انتقادات عدلي القيعي (فيديو)    استقبال تردد قناة السعودية لمشاهدة الحجاج على نايل سات وعرب سات    عاجل.. رد نهائي من زين الدين بلعيد يحسم جدل انتقاله للأهلي    دعاء النبي في عيد الأضحى مكتوب.. أفضل 10 أدعية مستجابة كان يرددها الأنبياء في صلاة العيد    تشكيل غرفة عمليات.. بيان عاجل من "السياحة" بشأن الحج 2024 والسائحين    طريقة الاستعلام عن فاتورة التليفون الأرضي    غرامة 5 آلاف جنيه.. تعرف علي عقوبة بيع الأطعمة الغذائية بدون شهادة صحية    «المالية»: 20 مليون جنيه «فكة» لتلبية احتياجات المواطنين    إلغاء إجازات البيطريين وجاهزية 33 مجزر لاستقبال الأضاحي بالمجان في أسيوط    ملخص وأهداف مباراة إيطاليا ضد ألبانيا 2-1 في يورو 2024    خوفا من اندلاع حرب مع حزب الله.. «أوستن» يدعو «جالانت» لزيارة الولايات المتحدة    شيخ المنطقة الأزهرية بالغربية يترأس وفداً أزهرياً للعزاء في وكيل مطرانية طنطا| صور    عاجل.. عرض خليجي برقم لا يُصدق لضم إمام عاشور وهذا رد فعل الأهلي    عاجل.. الزمالك يحسم الجدل بشأن إمكانية رحيل حمزة المثلوثي إلى الترجي التونسي    تزامنا مع عيد الأضحى.. بهاء سلطان يطرح أغنية «تنزل فين»    للكشف والعلاج مجانا.. عيادة طبية متنقلة للتأمين الطبي بميدان الساعة في دمياط    حلو الكلام.. لم أعثر على صاحبْ!    بمناسبة العيد والعيدية.. أجواء احتفالية وطقوس روحانية بحي السيدة زينب    فحص 1374 مواطنا ضمن قافلة طبية بقرية جمصة غرب في دمياط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة تضامن مستحيل الذهان الهذياني وثقافة الحقد في أمريكا
نشر في التغيير يوم 12 - 03 - 2005

في فيلمه الجميل حول الثلاثينات من القرن الثامن عشر، \"عصابات نيويورك\" يظهر مارتن سكورسيزي ان العنف الأمريكي لم يكن مرة محصورا في غزو الغرب البعيد ولا بالطبع ببعض الفصول المتواترة كالمافيا في ظل نظام منع إنتاج الكحول في العشرينات أو إعمال العنف العرقية في الستينات. فبوادر هذا العنف ظهرت باكرا جدا في تاريخ البلاد ، منذ اللحظة الأولى لنزول كل مهاجر من المهاجرين الجدد. ومن الوهلة الأولى يطال هذا العنف المباشر البالغ الحدة والذي لا نهاية له شرائح المجتمع كافة. ينصبّ هذا العنف على الوافد الفقير بدفعه إلى عنابر كريهة تتكدس فيها حشود يتعالى صراخها. وأيضا على الغني الذي يرى بيته تلتهمه النيران عند أدنى احتكاك. وكذلك على البسطاء التي تقوم مدافع حكومة أبراهام لنكولن [2] بقصف مساكنهم ردا على تظاهرات الشوارع. منذ ذلك التاريخ واللجؤ إلى قصف المدنيين كانت الوسيلة الفضلى التي تعتمدها الشرطة الاجتماعية الوطنية أو الدولية!
\r\n
\r\n
بالطبع، يبدو العنف القاتل مرتبطاً بالعوالم الجديدة التي غزتها أوروبا منذ خمسة قرون. لكن الواضح أيضا انه يتجدد باستمرار انطلاقا من بؤرة الولايات المتحدة أكثر من كندا أو حتى أمريكا اللاتينية. ان التفسير المعروف اليوم لمخرج الأفلام الوثائقية مايكل مور في فيلمه المشوق Bowling for Columbine [3] لا يربط العنف بعدد الأسلحة التي يملكها مواطنوه بل بمناخ الخوف والذهان الهذياني والكراهية المتبادلة التي ترعاها وسائل الإعلام. لكن لماذا تغذي وسائل الإعلام في الولايات المتحدة (وليس في غيرها من البلدان) هذا النوع من المناخ؟
\r\n
\r\n
في الحقيقة، من المذهل كيف يعجز المرء ان يقول عن نفسه انه \"ولاياتي متحدي\" كما يقول الآخرون أنهم مكسيكيون أو كنديون أو حتى كيبيكيون أو برازيليون... وماذا لو كانت نزعة الولايات المتحدة الباطنة نحو العنف في مختلف أشكاله على علاقة بهذا التغييب الطوعي للاسم الجماعي؟ ان هذا النقص ليس وليد الصدفة أو عدم الاكتراث بل يعود إلى سعي بعض الأمريكيين لكسب استقلالهم إزاء الأوطان الأوروبية من خلال الإكثار من الكيانات السياسية والثقافية وليس بالبحث عن تضامن قائم على الهوية. جاءت المجابهة لهذه الإرادة في التكاثر سطحية من خلال عقد الدستور عام 1786 بغض النظر عن استمراريته في الزمن. هكذا ومنذ منتصف القرن الثامن عشر يعاد إنتاج نزعة لا هوادة فيها للمحافظة على الفروقات الداخلية والخارجية مقابل تفاوض بالحد الأدنى حول إشكال التضامن.
\r\n
\r\n
ان ثقافة الولايات المتحدة هي اليوم كما الأمس معركة مستمرة بين الأفراد والجماعات والطوائف والكنائس والولايات، بين الحقوق والمفاهيم المدنية الخ... إما المقابل المتناقض في الظاهر لهذه المنافسة فهو دائما تحالف أي تجمع من العصب في انضباط مهني أو تجمع عسكري لحلفاء يقودهم زعيم نحو وجهة عدائية أو قمعية. كما كانت \"العصابات\" تتجمع منذ 160 عاما في الشارع الرئيسي في ضواحي نيويورك من اجل النزال حتى الموت تأمينا لسيطرة عصابة على الآخرين، لا يزال المطلوب دائما وأبدا مجابهة الآخر في موقع القوة والتغلب عليه بشتى الوسائل.
\r\n
\r\n
ان الموقف الأمريكي الثأري الذي يوصل إلى معاملة غير إنسانية للسجناء الأفغان (وغير الأفغان) في جوانتانامو أو إلى فتح النار على النساء والأطفال وسط احد الحشود في بغداد، ليس فقط ترجمة لمنطق القوة العظمى الفخورة بنفسها والتي تدعي فرض قانونها على العالم مهما كان الثمن. بل ان هذه التصرفات ترجع في جذورها التاريخية إلى مفهوم للحياة في المجتمع هو بمثابة نفي لمفهوم المجتمع في حد ذاته. وإذا كان هناك عشرة آلاف شخص يسقطون قتلى بالرصاص في الولايات المتحدة سنويا (مقابل عشرات في كندا أو فرنسا) فالمسؤولية لا تقع على وسائل الإعلام التي تلوح بالقلق الأمني بل على عدم تشكل الماهية التي تؤسس عليها المجتمعات.
\r\n
\r\n
على الأرجح، ان هذا التفسير ليس صحيحاً في المطلق لكنه يمثل خطا أحمر يبيّن العنف الجوهري الوارد من الولايات المتحدة وصولا(وبما في ذلك) إلى الرغبة العنيدة في حل النزاعات الدولية بطرق غير شرعية ومن خلال قتل المدنيين.
\r\n
\r\n
التعارض فاضح بداية الأمر بين أمريكا كما تخيلها رجل القانون توماس جيفرسون [4] الجمهوري على طريقة اليونان القديمة وبين واقع أفعال السيادة المتسمة بالعنف. فحيث أراد جيفرسون خلق أمة مسالمة متميزة عن أوروبا \"الغارقة دوما في الحروب\"، قامت أمة محاربة وفي منافسة مستعرة مع نفسها (الحرب الأهلية) ومع مهاجريها القسريين (من عبيد أولاً ومن عمال أحرار في ما بعد) ومع سكانها الأصليين (الابادة المبرمجة لعشرات الملايين من الهنود). مارست الولايات المتحدة على مر الزمن في حق البلدان الأخرى ما كان أخذه جيفرسون على الفرنسيين في عهد نابوليون: محاولة \"فرض مفهومهم الخاص للحرية على جيرانهم\" [5] .
\r\n
\r\n
بيد ان ما يميز الولايات المتحدة الفردية بامتياز عن سائر البلدان الأمريكية المتقبلة لأفكار التضامن الاجتماعي [6] هو الرهاب الكبير الذي يشعر به جيفرسون تجاه الدولة المعتبرة مسخا مقززا في طبيعته. فبالنسبة إلى جيفرسون ان الواجب الدائم للمواطن معارضة \"السلسلة الطويلة من التجاوز والاغتصاب المؤدية بالضرورة إلى الهدف نفسه\" ألا وهو \"إخضاعه للاستبداد المطلق\". بالطبع ان هذا الاستبداد المطلق متجسد في القوة الاستعمارية البريطانية المطلوب التحرر منها من خلال قوانين جديدة.
\r\n
\r\n
لكن لهجة جيفرسون مفعمة بنبرة يستطيع المحلل النفسي ان يصنّفها بسهولة من الذهان الهذياني. فبحسب جيفرسون ان هذه الحكومة الاستبدادية \"أرسلت إلى بلادنا رفوفا من الموظفين الجدد من اجل (...) التهام مادته الحيوية. ومن اجل إنجاز مشروع الموت والتعاسة والتسلط (...) في ظروف من القسوة واللؤم يصعب إيجاد أمثلة مشابهة لها في العصور الأكثر بربرية\". ألم \"يتم إبعاد فرق بأكملها من القوات المسلحة من اجل حمايتها من العقاب الذي قد يطالها بسبب جرائم القتل التي ارتكبتها في حق سكان هذه الولايات؟\" [7] . تجدر الإشارة إلى ان انقلاب الأدوار الغريب دفع بالمسئولين السياسيين والعسكريين الأمريكيين إلى المطالبة بحماية مشابهة من القوانين الدولية والقانون الجزائي العالمي المتمثل في محكمة الجزاء الدولية.
\r\n
\r\n
لا يمكن إنكار الطابع التقدمي للحريات التي كان يحاول أول رئيس للولايات المتحدة إبعادها عن سلطة الدولة \"التدميرية:\" حرية التفكير والتعبير والتجارة والمعتقد، والحق في الحياة والبحث عن السعادة وحق مغادرة الوطن وضمان عدم إعطاء القوانين مفعولا رجعيا ورفض السجن بسبب الديون والتحرر من أي فريضة دائمة وحق التواصل بين الناخبين وممثليهم والاتجار مع البلدان المجاورة والعمل لكسب لقمة العيش والدفاع بوجه المعتدين والأشرار والحفاظ على حرمة المسكن الخ... لكن أيضا لا يمكن التجاهل ان الحقد المتأصل ضد الدولة القوية اظهر في المدى الطويل تناقضا \"مع الواجب المقدس في التخلص من النزعات التي تفرق بيننا\" [8] .
\r\n
\r\n
لم يطمح سعي جيفرسون مرة إلى تجاوز الاستقلال وبناء تضامن وطني حقيقي على قاعدة المبادئ الجماعية المشتركة، بل انه كرس الهدنة بين الاريستوقراطية الجنوبية الموالية للإنجليز والديموقراطيين الشماليين المتحدرين بدورهم من منفيي الحرب الأهلية الإنجليزية. وبالتالي فهو لم يكن معنيا بالسكان المحليين. فالجمهوري المتساهل جيفرسون بنى مسيرته على تحالف متميز ضد بورجوازية الساحل الشرقي مع مستوطني الداخل الذين كانوا يخوضون حربا دائمة على الهنود، \"هؤلاء المتوحشين العديمي الشفقة والذين يذبحون كل ما تقع عليه أيديهم في الحرب من دون النظر إلى السن أو الجنس أو الحال\" [9] . ومنذ منتصف القرن التالي بدأت توزع جوائز على سكان كاليفورنيا الجدد من اجل قتل الهنود وكأنهم حيوانات مضرة.
\r\n
\r\n
على مر تاريخها انتهى الأمر بفئات الوافدين الجدد إلى محاولة إقفال الباب في وجه من أراد اللحاق بها (من خلال نظام للحصص تبعا لبلد المنشأ) وإذا تعذر ذلك إخضاعها إلى استغلال مضن في نوع من طقس العبور الذي يحول كراهية بلد الأصل إلى بلد الاستقبال. والطابع العقابي واضح للعيان حيث ان انعدام وجود أنظمة تضامن اجتماعي في مجال العمل أفسح في المجال على الدوام لحصول نسب من الحوادث وحالات الإجهاد تفوق بكثير أي بلد \"متحضر\" آخر.
\r\n
\r\n
أخيراً فإن الولايات المتحدة كانت منذ 35 عاما فقط بلد التمييز العنصري الرسمي (على غرار أفريقيا الجنوبية) ضد الملونين. وفي أيامنا هذه لا تزال ترتسم داخل غالبية المدن، كبيرة وصغيرة، حدود يصعب تجاوزها بين مختلف الفئات الاجتماعية والجماعات الاثنية. والعاملان هنا يتقاطعان. فمن الجيتوات السوداء إلى الأحياء اليهودية أو الضواحي اللاتينية أو الاسبانوية وصولا إلى \"الجماعات المغلقة\" وغيرها من مجمعات \"الكاونتري كلوب\" المخصصة لأصحاب المليارات، تبدو الولايات المتحدة رمزا للتقطيع الاجتماعي في المكان.
\r\n
\r\n
من فكرة ويلسون لقيام عصبة للأمم مثالية [10] إلى مشروع كينيدي حول \"المجتمع الكبير\"، طالما حلم القادة السياسيون \"لهذا الكيان المتعدد والذي لا اسم له\" بنموذج لمجتمع وكأن هذا النموذج مستحيل التحقيق. في العام 1920 لم تتحقق إرادة توماس ويلسون في إقامة نظام ديموقراطي عالمي، ويعتقد البعض حتى ان المشروع ساهم في اندلاع الحرب العالمية الثانية. في النهاية وكما يلاحظ احد المعلقين [11] ، لقد الهم مشروع ويلسون البناء الأوروبي الراهن أكثر مما أثّر في الولايات المتحدة.
\r\n
\r\n
منذ 11 ايلول/سبتمبر 2001 تشهد أميركا تصلبا عسكريا وامنيا. في نظر مؤيدي الحرب على العراق فإن الحلف المقدس يساهم في الدفاع عن \"العش\" الوطني بينما يعتبر معارضو الحرب إنها ليست سوى هبّة كراهية للأجنبي من النوع العنصري الشعبوي التقليدي الذي طالما اعتاد عليه داخل البلاد. هل هم مخطئون؟ في مقابلة أجرتها معه محطة تلفزيون \"سي أن أن\" في 21 آذار/مارس 2003 أكد احد الجنود الأمريكيين انه يريد ان \"يثأر في العراق... من اعتداءات 11 ايلول\". وهو يشاطر 55 في المئة من مواطنيه الاقتناع بأن صدام حسين مرتبط ب\"القاعدة\" وكان مسئولاً عن الاعتداء على مركز التجارة العالمي. ويمكن الافتراض ان هذا الخلط الجاهل يطال العرب عموما ويروح يشبه الرهاب الوبائي في الأزمنة الغابرة: تجاه الهنود والسود أو الآسيويين.
\r\n
\r\n
يعيدنا هذا الانحراف العنصري المفاجئ إلى أسوأ وأثبت ما في التقاليد الثقافية التحتية في الولايات المتحدة. وفي حال التصلب نشهد من جهة \"عصابة\" الميليشيات الوطنية المرتبطة بالسلطات والتي تبعث من جديد مزيج الرعب الخفي والقمع البوليسي الدموي كما في عز حقبة المكارثية، ومن جهة أخرى قبيلة \"المثقفين\" والمنفتحين على التعددية وغيرهم من \"الخونة\" المحتملين. لكن وكما يشير مايكل ليند [12] ، فان هذا التعارض يستعيد ومن ضمن جغرافيا الأحزاب السياسية نفسها ترسيمة التقصف الداخلي الأكثر قدما أي الجنوب الاستعماري المعادي لحقوق المرآة الرافض الآخرين والعنصري مقابل شمال بوريتاني علماني جماعاتي ليبرالي وعالمي النزعة.
\r\n
\r\n
ان مفهوم \"التحالف\" يمثل جيدا نموذج التضامن الصادق في لغة جورج والكر بوش الحربية. لكنه لا يأتي كما يلاحظ اندرو بازفيتش [13] إلا في إطار إرادة أحادية القطب للانتصارات المتتالية في العالم وهو اتجاه لم تحد عنه الديبلوماسية الأمريكية منذ نصف قرن من الزمن. وهذا القطب الواحد ليس فقط قطب الدولة الأقوى في العالم بل هو أيضاً المجموعة المحيطة بالرئيس وتلك التي نظمها حوله معبّرا هكذا عن صفاته كزعيم حرب وحبر أعظم ديني وقائد شعبي تعشقه الجماهير.
\r\n
\r\n
وإذا بأمريكا الإعلامية والساخرة تجد لنفسها أخيراً تسمية \"بوش لاند\" الذي تدل عبر اسم عائلة الرئيس (بوش يعني دغل بالإنجليزية) على الطابع البري للغابات الاستعمارية المطلوب استصلاحها من دون تردد. لكن العديد من مواطني الولايات المتحدة لا يتماهون مع هذه التسمية كون \"بوش لاند\" تشير أيضا إلى عصبة تسيطر على إدارة البلاد.
\r\n
\r\n
كثرت التعليقات حول طابع الطائفة المغلقة أو الزمرة لتصنيف المعاونين المقربين من السيد بوش. ويتم التركيز على التعصب الصليبي لدى العديد من هؤلاء والرابط الغريب بينهم وبين عالم النفط. لكن لم يشر إلى ان هذه الصفات ميزت على الدوام أي تشكيلة جماعاتية في الولايات المتحدة منذ ثلاثة قرون، فالكيان الجماعي الأساسي يتكون دائما إلى حد ما من تشكيلة تحافظ، في سياق معارضتها الضارية لكل ما يقف في وجهها، على اطباع التابعين المستزلمين للقائد والمقيمين معه وهم يمتطون المجد ويجمعون الغنائم والأراضي أو يسقطون ضحايا المغامرة.
\r\n
\r\n
تلك هي رسالة الروائي جيمس اللروي الذي يحكي سيرة المجموعات المتنافسة على رأس الدولة في الولايات المتحدة أبان حكم جون كينيدي. ففي روايته الشهيرة American Tabloïd نرى كيف ان كل مؤسسة من المؤسسات (وكالة الاستخبارات المركزية، مكتب التحقيقات الفيدرالي، النقابات، الجماعات العرقية، المافيات، الجيش، فرق الوطنيين، صحافة الفضائح الخ...) تعمل لنفسها وضد الآخرين في معركة الأبطال الداميين. فاغتيال جون ومن بعده روبرت كينيدي واغتيال جيم هوفا (الزعيم النقابي المافياوي) وحتى الموت المشبوه لماريلين مونرو والهجوم على كوبا عام 1961 وإطلاق حرب فيتنام الخ... تقدم لنا كأحداث مترابطة في حبكة درامية وثيقة إلا وهي حرب العصابات الذين ترقوا اجتماعيا بصعودهم إلى دوائر السلطة الحاكمة.
\r\n
\r\n
إذا كانت التفاصيل التي يعرض لها اللروي وهمية فإن المضمون السوسيولوجي لروايته مذهل في حقيقته، فالولايات المتحدة تعمل من أعلى إلى أسفل مثل حلبة صراع دائم بين المجموعات شبه العائلية المكونة وفق منطق إقطاعي لم تلجمه بعد مؤسسة الدولة الحازمة، وقادر على تكرار نزاعاته إلى ما لانهاية.
\r\n
\r\n
أما شخصنة الصراع فهي سمة لا مفر منها من سمات الاستتباع في الحياة السياسية. هنا أيضا تحدث الأمور كما في \"عصابات نيويورك\" حيث يفرض القائد نفسه بالقوة والحيلة (كما حصل في الألاعيب التي رافقت آخر انتخابات رئاسية أمريكية) على مجموعة متنافرة من الزمر المسلحة ليحاول من بعدها المحافظة على موقعه الساحر كذكر \"ألفا\" بحسب تعبير علماء الإنسان الأول. فعليه دائما ان يشهر التهديد في وجه جماعته وخصوصاً إعادة بث الحماسة فيهم بتقديم المنافس التعيس الحظ على صورة فريسة \"شيطانية\" كما يحلو له تصويرها.
\r\n
\r\n
فخلافا لما يفترضه بعض المعلقين المعجبين بالسياسة الأمريكية فإن السادة سلوبودان ميلوسيفيتش وأسامة بن لادن وصدام حسين لم يرفعوا إلى مرتبة العدو رقم واحد بفضل نظرية جدلية متعمقة. بل إنهم يمثلون وجوه التحدي الضرورية التي يطلقها المرشح الأقوى إلى الزعامة كما في منطق حروب عصابات الشوارع. فهم يستخدمون من اجل التمويه الدقيق على تحضيرات النزال والذي لن يترك أي مخرج أمام \"المنافس الاستراتيجي\". هكذا فإن \"الدولة المارقة\" المفترض إنها تمتلك أسلحة الدمار الشامل ليست سوى دولة عاجزة عن أي تهديد جدي بحق الطامح إلى السيطرة على القطاع. فبعد ان تعرضت للقصف المستمر منذ عشر سنين وتجسس عليها الخبراء وتفككت بفعل الحصار الطويل ستقدم في ما بعد فريسة للمجموعة المهيمنة و\"عرابها\" الذي يثأر بلا رحمة ويميل في ثأره إلى الاستعراض.
\r\n
\r\n
وحده المراقب المحمي من غضب \"الزعيم المحارب\" يمكنه القول ان مفهوم \"الدولة المارقة\" ينطبق في أفضل صورة على ممارسات رئيس العصابة من المهاجمين والذي يستعمل دولته لتنفيذ مشروعه الخاص بالهيمنة. وغالبا ما عبّر معارضو سياسة بوش عن هذا الموقف من خلال العبارة: \"إنها حرب الرئيس وليست حرب البلاد\".
\r\n
\r\n
لكن \"التحالف\" المحارب لا يهدف فقط إلى توحيد الآراء والجهود خلف شخص واحد في استعراض بارز ومتكرر للقوة. بل يرمي أيضا إلى استبدال أي فكرة خاصة بالتضامن الحقيقي. فالتحالف هذا يفرض نفسه على حساب الآليات الشرعية للأمم المتحدة ويحتل كامل الحيز المتخيل الذي كان يمكن لفكرة التضامن الاجتماعي ان تملأه.
\r\n
\r\n
بعد مشاهد الحرب الرهيبة رأينا في الأيام التي تلت \"الانتصار\" صورا محببة للدوريات الأمريكية المتعددة الاثنيات في العراق. فالسيد جورج والكر بوش كان يأمل في قطف ثمار نصر \"الحلفاء\"... في الوقت الذي كانت تتراجع فيه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في الولايات المتحدة ثلاثة ملايين وظيفة الغيت منذ الانتخابات الرئاسية (المشكوك في صحتها) منها 200 ألف في العاصمة المالية نيويورك.
\r\n
\r\n
وفيما يتواصل الاستعراض الحربي، لم تحاول إدارة بوش استعادة الازدهار الاقتصادي باتخاذ التدابير الملائمة بل على العكس خفضت الضرائب في صالح المداخيل العليا دون غيرها (واحد في المئة يستفيدون من 43 في المئة من الخفض). وعمدت إلى تفكيك كل ما من شأنه التذكير بالمسؤولية العامة للدولة في تحقيق رفاه المواطن. فخفضت بنسبة 86 في المئة البرنامج الاجتماعي للاستشفاء (المبرم بين المستشفيات العامة والخاصة بغية مساعدة المرضى ممن لا يحوزون ضماناً صحياً) وخفضت مبلغ 700 مليون دولار من مخصصات إعادة تأهيل المساكن الشعبية و60 مليون دولار من البرنامج الإسكاني لمؤسسة العناية بالطفل ومئات ملايين الدولارات من الصندوق الذي يقدم مساعدات لذوي الأجور المتدنية كي يؤمنوا الحضانة لأطفالهم إثناء دوام عملهم. كما منعت أي مساهمة فيدرالية لمؤسسات تنظيم الأسرة المؤيدة للإجهاض.
\r\n
\r\n
كذلك في باب الثقافة العامة التي لا تعيرها اهتمام فقد شطبت 200 مليون دولار من برنامج إعداد العاطلين عن العمل وألغت برنامجا للتدريب على المطالعة في أوساط العائلات الفقيرة وحذفت 39 مليون دولار من موازنات المكتبات الفيدرالية و35 مليون دولار من الإعداد لطب الأطفال... وعينت في مسؤولية حماية البيئة الأعداء المعلنين لها كتسمية إحدى مديرات شركة \"مونسانتو\" الاحتكارية في إدارة وكالة البيئة وكان إنجازها الأول خفض موازنة الوكالة نصف مليار دولار. وفتحت المحميات أمام الاستثمار الحرجي والتنقيب وألغت القوانين الفيدرالية التي تمنح الدولة حق رفض إبرام العقود مع شركات ملوثة وخطرة على العاملين فيها كما أبطلت سلسلة من التدابير الحمائية في هذا المجال. ووضعت في المزاد العلني قاع البحر في فلوريدا وحررت الأراضي المحمية في ألاسكا وخفضت بنسبة النصف موازنة البحث عن الطاقة القابلة للتجدد وبنسبة 28 في المئة الأبحاث حول السيارات غير الملوثة.
\r\n
\r\n
نقع على المستوى الدولي على رفض مماثل لأي شكل من أشكال التضامن، فإدارة بوش رفضت توقيع اتفاق كيوتو حول تسخن الأرض وخانت وعودها في الحد من انتشار ديوكسيد الكاربون ونجحت في تأجيل الاتفاق حول خفض نسبة الزرنيخ في مياه الشرب الى معدلات \"مقبولة\". كما انكرت أخيراً تعهدها بتوظيف 100 مليون دولار سنويا في حماية الغابات الاستوائية.
\r\n
\r\n
مختصر الكلام مقابل الهيمنة الأمريكية على العالم مشروع منهجي لتدمير التضامن، وليس سلوك واشنطن في العراق سوى مثال من بين أمثلة أخرى على هذا النهج. فانتصارها المتوقع من زمن طويل بفضل مزيج بارع من رشوة المسئولين البعثيين والتهديد الوقائي لقوات النخبة، تحول الى استعراض للقوة العظمى من طريق القصف الدموي للأحياء الشعبية والشوارع التجارية. ثم يقوم المحتل بتركيز الفوضى الدائمة والعمل على تنظيمها. تبقى في ذاكرة المشاهدين صورة الوجوه اللامبالية لرجال البحرية الأمريكيين (أشبه بالرجال الآليين) في أسوأ لحظات النهب في بغداد. ليس من استعارة أفضل من صورة العراق المحتل للتعبير عن نفور المواطن \"الولاياتي المتحدي\" من أدنى إشارة إلى التضامن وهوسه في إعادة خلق كما في قعر المدن الأمريكية نفسها ديكورا عالم ثالثياً متداعيا يقطنه الآخر المغلوب والمذلول والعاجز عن الخروج من نكبته. كأن المطلوب نقل الكراهية إلى ما لانهاية.
\r\n


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.