والآن فقد جاء وقت المساءلة والمحاسبة. فهاهو يواجه تهمة خطيرة، تدور حول رفضه نصيحة كبار جنرالات الجيش بشأن عدد القوات المطلوبة لحفظ الأمن في العراق، في مرحلة ما بعد الحرب. تشمل هذه التهمة المروعة، تجاهل نصيحة وزارة الخارجية حول عملية إعادة البناء، اللامبالاة إزاء خطورة ممارسات النهب والسلب التي تعرضت لها المدن العراقية في أعقاب الحرب مباشرة، وما أسفرت عنه تلك الممارسات عن إشاعة فوضى عامة في البلاد، ودعم رامسفيلد لقرار حل الجيش العراقي، وعدم التحسب للعواقب الوخيمة المترتبة على تسريح الآلاف من الجنود المسلحين الناقمين على قرار الحل، وأخيرا التحايل على قوانين الحرب، لتبرير الاحتجاز غير المحدود زمنيا للسجناء، وإخضاعهم للتعذيب الدوري. وقد أسفر ذلك التحايل عن كارثة علاقات عامة، وتشويه لصورة الولاياتالمتحدة الأميركية في عيون العراقيين والعرب خاصة، والعالم بوجه عام. \r\n \r\n وليس في وسع رامسفيلد أن يدعي أنه كان ضحية استشارة عسكرية ضعيفة. ذلك أن الاستشارة الوحيدة التي يستطيع سماعها، هي صوته وحده. من هنا تنشأ المقارنة والتشابه الكبير بين رامسفيلد، ونظيره الأسبق روبرت ماكنمارا الذي تولى المنصب ذاته في إدارة الرئيس الأسبق ليندون جونسون. فمثلما خرج ماكنمارا من فيتنام، مخلفا وراءه ما بات يعرف في التاريخ السياسي والعسكري ب \"متلازمات عقدة فيتنام\"، فقد خلفت الحرب العراقية التي قادها رامسفيلد، وراءها ما يمكن الاصطلاح عليه ب \"متلازمات عقدة العراق\". ومابين الشخصيتين تقاطعات وملامح مشتركة كثيرة في السلوك. فكلاهما مرتاب وغير آبه بما يقدم له من نصائح عسكرية. وكلاهما يمضي بشكوكه وارتيابه إلى ساحة العمليات والمعارك، مما يجعلهما عرضة للاتهام بالعجرفة والصلف. يذكر هنا أن توماس وايت، الجنرال السابق في سلاح الطيران، قد اشتهر بازدرائه لوزارة الدفاع في عهد ماكنمارا، لكونها وزارة مليئة بمدخني الغليونات، وأنها كانت أشبه بالشجرة المزدحمة بطائر البوم، وبمثقفي الدفاع، وغيرها من النعوت التي تشبه إلى حد كبير نقمة الضباط الرسميين اليوم في وزارة رامسفيلد، على \"مثقفي\" الدفاع الذين يحيطون رامسفيلد ويطوقونه من كل جانب، علما بأنهم من غير العسكريين بالطبع. والنقمة هنا، على تسيير المدنيين من غير ذوي الخبرة بشؤون الحرب والقتال،لأخطر الأمور والمهام في وزارة الدفاع! \r\n \r\n السخرية والمفارقة هنا، أن أمثال استراتيجيي ومفكري التدخل العسكري في شؤون الدول الأخرى، المحيطين برامسفيلد اليوم، قد كابدوا معاناة وصراع ثلاثة عقود من الزمان، في سبيل \r\n \r\n تجاوز \"متلازمات عقدة فيتنام\" بكل ما يتصل بهذه المتلازمات من تردد وتمنع عن التورط في خوض حروب خارج الحدود. الآن وقد بلغ هؤلاء لحظة انتصارهم خلال حرب أجنبية، كانت اليد العليا فيها للولايات المتحدة الأميركية مجددا، فقد أصبح أمامهم واقعيا، الكثير مما يحمل على الخوف والقلق. وهاهو الاعتقاد أوالخوف القديم نفسه، يواجههم من جديد، ويحيل نصرهم إلى سراب: المصير المحتوم لأي تدخل عسكري أميركي كبير الحجم، هو الفشل الأكيد على الصعيد العملي. \r\n \r\n على سبيل المقارنة كان الرئيس جورج بوش الأب، قد صرح عقب انتهاء حربه على صدام حسين –في حرب الخليج الأولى- وخروج قوات صدام الغازية من الكويت قائلا: ها قد تمكنا من ركل وتجاوز عقدة فيتنام مرة واحدة وإلى الأبد. ومما لا شك فيه أن استراتيجيي التدخل العسكري في ظل إدارة بوش الابن، كانوا بحاجة إلى أرض يختبرون فيها مدى صحة استراتيجيتهم ونزعتهم التدخلية هذه، خلافا لأرض العراق. فما كان أحوجهم إلى أرض يثبتون من خلالها صحة افتراضاتهم القائلة بأنه ليس في وسع القوة الأميركية الضاربة، أن تكتسح جيش بلد صغير مستضعف في لمحة البصر فحسب، بل وأن تحيله بالكامل، بدلا من أن تكتفي باحتوائه عسكريا. الآن وعلى الصعيد الواقعي، فإن أفضل ما يمكن أن ينجلي عنه هذا المأزق الحقيقي الشائك في العراق، هو أن يستمر الحال على ما هو عليه، أملا في أن ينهك العدو وتستنفد قدراته أولا، قبل أن يحدث الشيء نفسه للأميركيين. أما أسوأ احتمالات هذا السيناريو المظلم، هو أن يصبح لزاما على القوات الأميركية مغادرة العراق، مخلفة وراءها بلدا يمور بالعنف والتطاحن والحروب الأهلية، إضافة إلى كونه بؤرة ومعقلا للإرهابيين. وعندها تكون قد حانت لحظة جديدة، تستدعي المراجعة وإعادة النظر في السياسات الخارجية المطبقة، والتحسب ألف مرة ومرة، قبل اللجوء لاستخدام القوة ضد بلد أجنبي. \r\n \r\n خلافا لحرب فيتنام التي كانت حرب احتواء عسكري، فإن حرب العراق هي من نوع آخر تماما، لكونها حربا احترازية إستباقية. وبهذه الصفة فهي تمثل تحديا مضاعفا للسياسة الخارجية التي انتهجتها واشنطن في ظل الإدارة الحالية. كما تثير بالصفة ذاتها تساؤلات عديدة، ليس حول حكمة التدخل بحد ذاته، بل مدى كفاءة وتوحد أجهزة الاستخبارات الأميركية حول ما يمثل تهديدا جديا ومباشرا للأمن القومي للولايات المتحدة. الأسوأ من ذلك، ما يثار اليوم من مزاعم واتهامات، حول تجاهل إدارة بوش \"عقدة فيتنام\" وعدم تعلمها الدرس. وعلى أية حال، فإن التجربة العراقية، ليست من التجارب التي تستطيع الحكومات الأميركية الإقدام على تكرارها. \r\n \r\n أما بالنسبة للحكومة الحالية، فإنها ليست بقادرة على ذلك تحت كل الظروف والأحوال، نظرا لعدم وجود ما يكفي من القوات، لخوض معارك كبيرة بهذا الحجم، في مكان آخر من العالم، سيما ونيران المعارك لم تنطفئ بعد في العراق نفسه. وما لم تتمكن أميركا من كسر شوكة المتمردين هناك، فإنها سوف تخسر كثيرا على الصعيد المعنوي. وليس من جديد في القول إن الثقة قد اهتزت سلفا في القوة الأميركية، التي بادرت بشن حرب لم تملها الضرورة على العراق. الجديد الذي أسفرت عنه تجربة العراق هذه على صعيد السياسات الخارجية هو، ما أن يصبح محتملا اللجوء للقوة العسكرية ضد بلد آخر، في لحظة ما، حتى ترتفع الأصوات المطالبة بألا تكون هذه الحر ب، عراقاً آخر بأية حال. وسوف تظل هذه التجربة \"فزاعة\" ومثيرة لحذر كافة دعاة التدخل المستقبليين. \r\n \r\n \r\n لورانس فريدمان \r\n \r\n أستاذ الدراسات الحربية في كلية \"كينجز\" بلندن ومؤلف كتاب \"حروب كنيدي\" \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست\"