\r\n ويمكن القول: ان بعض هذه المشاكل كان نتيجة حتمية للحرب التي شنت للاطاحة بصدام حسين, لكن عراق اليوم يبدو بعيدا جدا عن الصورة التي وعدت بها ادارة بوش. فقد قادت سلسلة طويلة من الحسابات الامريكية الخاطئة الى ان يترك الاحتلال العراق في وضع اسوأ بكثير مما اقتضته الظروف وان يضعف الى حد كبير الافاق الممكنة لقيام الديمقراطية على المدى البعيد. وهاهم العراقيون, والامريكيون, والاجانب الاخرون يتساقطون قتلى كل يوم, فأين كان الخطأ? \r\n \r\n لقد بات الكثير من الحسابات الخاطئة الاصلية التي ارتكبتها ادارة بوش معروفا لدى الجميع. لكن الاخطاء الاولى تركت عواقبا واسعة, وعميقة, ودائمة البعض منها لم يظهر للعيان الا مؤخرا. اول تلك الاخطاء واخطرها هو ذلك المتعلق بالامن, حيث ان ادارة بوش لم تكن ابدا على استعداد لتخصيص القوات اللازمة لضمان الامن في عراق ما بعد الحرب. حذر الخبراء العسكريون واشنطن منذ البداية بان المهمة في العراق تحتاج الى »مئات الالاف« من الجنود, كما جاء على لسان رئيس اركان الجيش الامريكي اريك شينسكي في افادة له امام الكونغرس في شباط ,2003 ولو ارادت الولاياتالمتحدة ان تعتمد نشر قواتها في العراق بنفس النسبة التي اعتمدتها في نشر قوات الناتو في البوسنة قياسا على حجم سكان البلاد لاحتاجت الى نصف مليون جندي في العراق, لكن مجموع التحالف لم يصل الى ثلث هذا الرقم. \r\n \r\n وقد رفض وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ووكلاؤه المدنيون جميع النداءات الداعية الى توسيع حجم القوات, واوضحوا بما لا يقبل الشك عدم ترحيبهم بتلك النداءات على الرغم من وعود غير صادقة كانوا قد قطعوها للجيش بتوفير »كل شيء« يطلبه. \r\n \r\n وقد وعى ضباط الجيش الامريكي جيدا الدرس الذي تلقاه الجنرال شينسكي عندما كافأه البنتاغون على صراحته باعلان تعيين بديل له قبل موعد انتهاء خدمته بعام كامل الامر الذي نزع السلطة من يده واحاله الى »بطة عرجاء«. \r\n \r\n وهكذا ارغم الضباط والجنود في العراق على الاحتفاظ بشكواهم في عدم كفاية الجنود والمعدات طي الكتمان على الرغم من اعلان كبار المسؤولين السياسيين في »سلطة التحالف المؤقتة« عن ضرورة اللجوء الى اجراءات عسكرية اوسع من اجل فرض الامن على البلاد. \r\n \r\n ويمكن القول ان حوالي 300 الف جندي كان يمكن ان يكونوا كافين لجعل العراق آمنا بشكل عام بعد الحرب مباشرة. لكن ذلك كان يتطلب نشر انواع مختلفة من الجنود واعتماد قواعد جديد للاشتباك. اذ كان يترتب على سلطة التحالف ان تتوسع في نشر الشرطة العسكرية وغيرها من القوات المدربة على اعمال الدوريات في المدن والسيطرة على حشود الجماهير, واعادة البناء المدني, وفرض السلام والمحافظة عليه, وكان ينبغي نشر عشرات الالوف من الجنود المزودين بمعدات المراقبة المتطورة على الحدود مع سوريا وايران لمنع تدفق الارهابيين الاجانب, ووكلاء المخابرات الايرانية, والاموال, والاسلحة. \r\n \r\n لكن واشنطن اخفقت في اتخاذ مثل هذه الخطوات, وكان السبب في اخفاقها هذا هو نفس السبب الذي جعلها تقرر احتلال العراق بقوة خفيفة نسبيا الا وهو: الايديولوجيا والعجرفة فقد تجاهلت مجموعة صغيرة من مسؤولي البنتاغون المخططات المشغولة بعناية من قبل وزارة الخارجية لعراق ما بعد الحرب وهي المخططات التي شملها المشروع المعروف باسم »مستقبل العراق« الذي توقع واضعوه العديد من المشاكل التي ظهرت بعد الاجتياح. فبدلا من الاستعداد لما هو اسوأ, افترض مسؤولو البنتاغون ان العراقيين سيرحبون بسرور بالقوات الامريكية والدولية بصفتها قوات محررة. \r\n \r\n وقد رأى هؤلاء ان بوسع واشنطن, بعد تدمير الاجهزة العسكرية والامنية التابعة لصدام حسين, ان تسلم البلاد الى المنفيين العراقيين, مثال احمد الجلبي, الذين سيسارعون الى اقامة دولة ديمقراطية جديدة. وتبعا لهذا الرأي, لم يقتصر التخطيط على اختزال عدد الجنود الذين ستحتاجهم العملية في البداية, انما تنبأ بان تخفيض عدد الجنود الى بضع عشرات من الالوف خلال العام الاول من الاحتلال سيكون امرا ممكنا. \r\n \r\n تداعت, بالطبع, هذه الافتراضات الساذجة فور انتهاء الحرب, وتداعى معها الامن في العراق. فقد وقف الجنود الامريكيون, غير المستعدين للموقف الجديد, والمغلوبون على امرهم, عاجزين امام عمليات نهب وتخريب ما تبقى من البنية التحتية الاقتصادية, والمادية, والمؤسساتية. وحتى لما تبين ان النهب لم يكن مجرد نتيجة مؤقتة لانهيار النظام الاجتماعي وانه كان مقاومة ذات درجة عالية من التنظيم والتسليح والتمويل موجهة ضد الاحتلال الامريكي, فان ادارة بوش اضافت الى اخطائها الاصلية خطأ اخر عندما رفضت بعناد ارسال المزيد من القوات. وراح المسؤولون الاداريون يخدعون انفسهم بأن هزيمة المتمردين وشيكة, وانها لا بد ان تتحقق مع انتهاء صيف عام 2003 الطويل الساخن, او مع بداية تدفق اموال اعادة البناء, او مع خلق الوظائف وفرص العمل الجديدة, او مع بداية الفترة الانتقالية السياسية, او مع القاء القبض على صدام حسين, او مع تشكيل الحكومة العراقية المؤقتة, وكما كان الحال عليه في فيتنام, فان ثمة نقطة تحول كانت متوقعة عند كل خطوة, في حين كانت واشنطن ترفض باصرار ادراك عمق التذمر الشعبي في العراق. \r\n \r\n انعدام الامن الوطني \r\n \r\n ان اي مسعى لاعادة بناء بلد مدمر مزقته الحرب لا بد ان ينطوي على اربعة مكونات رئيسية: اعادة البناء السياسي لدولة شرعية وفاعلة, واعادة البناء الاقتصادي وبضمنه اعادة اعمار البنية التحتية ووضع القواعد والمؤسسات التي تسمح بقيام اقتصاد السوق, واعادة المجتمع المدني والثقافة السياسية التي تنمي التعاون الطوعي وتقييد سلطة الدولة, وتوفير الامن العام لفرض ايجاد اجواء آمنة ونظامية. \r\n \r\n تتفاعل هذه العناصر الاربعة وتتداخل فيما بينها فبدون حكومة فعالة وشرعية وقائمة على اساس القانون ستتعثر عملية الاعمار المادي والاقتصادي وسوف يرفض المستثمرون المجازفة برؤوس اموالهم في مجالات ايجاد الاعمال الجديدة وتوليد الثروات الجديدة. وبدون تقدم ملموس على الجبهة الاقتصادية, لن تتمكن الحكومة الجديدة من المحافظة على الشرعية او تطويرها, وسوف تتلاشى سريعاً فاعليتها وهيبتها, وبدون تنمية الرصيد الاجتماعي في صيغة مخالفات للثقة والتعاون في مجتمع مدني صاعد, لن تتمكن التنمية الاقتصادية من المضي قدماً بالحد اللازم من الحيوية والتنوع, كما لن يكون بالامكان دعم النظام الحكومي الجديد او مراقبته, وبدون امن لا بد لكل شيء ان يتعطل. \r\n \r\n في الحالات التي تكون فيها الدولة قد انهارت في اعقاب نزاع مسلح, يتقدم الامن على كل شيء اخر: فهو الركيزة الاساسية التي تدعم كل ما عداها. وبدون حد ادنى من الامن لا يستطيع الناس ممارسة التجارة, او تنظيم المجتمع, او المشاركة الفاعلة في السياسة, وبدون امن لا يبقى للبلد سوى الاضطراب, وانعدام الثقة, واليأس, ويسود الخوف, وتطغى القوة الفجة. وهذا هو السبب الذي يجعل المجتمعات المبتلاة بالعنف تميل الى الاستجابة لأية قوة تعدها بتوفير الامن والنظام, حتى وان كانت قوة استبدادية. وهو السبب الذي يوضح لماذا يتوجب على البلاد اولاً ان تكون فيها دولة قبل ان يصبح بمقدورها اقامة الديمقراطية, والشرط الاول للدولة هو حصولها على احتكار استخدام العنف. وتبعاً لهذا المقياس, فان الكيان الذي نقلت اليه الولاياتالمتحدة السلطة في بغداد في 28 حزيران يمكن ان يسمى حكومة, لكنه لم يكن دولة. \r\n \r\n برغم عدم كفاية اعداد الجنود الذين نشروا في العراق, فقد كان بالامكان الاستفادة منهم على نحو افضل لاقامة الامن واحتواء قوى الفوضى مثل نقل السلطة. لكن سلطة التحالف المؤقتة. لسوء الحظ, لم تكن تنقصها الموارد اللازمة لاداء مهمتها فحسب بل كانت تفتقر ايضاً الى حسن الادراك والتنظيم. فمحاولة تكوين قوة شرطة عراقية, على سبيل المثال, تقوضت بفعل العجالة, وعدم الكفاءة, والتخطيط السيىء, وانعدام الاهلية. وقد دفع بأفراد الشرطة الجدد الى العمل بدون تدريب كافٍ, واجهزة اللاسلكي, والدروع الواقية, وغالباً ما كانوا يواجهون بأعداد متفوقة من المجرمين او الارهابيين او المخربين. وبصفتهم رمزاً من رموز الدولة الجديدة, فإنهم تحولوا الى »اهداف سهلة« للهجمات الارهابية. وكان ما قدمته قوات التحالف لحمايتهم ضئيلاً جداً وبعد فوات الاوان.