لا تتردد القلة التي نجت من عملية اختطاف 300 فتاة نيجيرية من سرد قصتهن، وكيف انتزعن من نومهن ليلاً بإحدى المدارس الداخلية البعيدة ليسحبن، ثم يُحملن على الشاحنات التي تتقدمها دراجات نارية، والاختفاء في مجاهل الغابة، وكان لهذا الهجوم المروع الذي صدم العالم وقع كبير على الرأي العام الدولي يشبه إلى حد بعيد تأثير هجمات 11 سبتمبر. لكن وفي حمأة الدعوات المتصاعدة للتصدي الحازم لهذا الهجوم الغاشم على فتيات بريئات، يحق للولايات المتحدة التريث وعدم التسرع في دعم الحكومة النيجيرية في مكافحة الإرهاب، ذلك أنه وعلى غرار الدروس السابقة في محاربة الإرهاب قد تتحول المساعي الرامية لاجتثاث جذور العنف إلى مشكلة بحد ذاتها تكتفي باقتلاع الشجرة، وترك الجذور العميقة للإرهاب قائمة. ولو كان ثمة طرف يتحمل مسؤولية ظهور «بوكو حرام» في نيجيريا، فإنها الحكومة نفسها في أبوجا التي بسياساتها الخاطئة غذت الإحباط، وهيأت الأرضية لاحتدام العنف، وتحول الاستياء إلى إرهاب، فالحركة التي أقدمت على الفعل الشنيع والمصنفة وفق وزارة الخارجية الأميركية ضمن المنظمات الإرهابية منذ شهر نوفمبر الماضي طفت إلى السطح، ونالت شهرتها في 2009 بعد تنفيذها سلسلة من الهجمات ضد منشآت حكومية في شمال شرق نيجيريا، لتعقبها حملة قمعية شديدة قادتها قوات الأمن النيجيرية وخلفت مئات القتلى، لكن ما زال غير معروف على وجه الدقة هياكل «بوكو حرام» ولا طريقة الانتساب إليها، فضلاً عن التباس أفكارها والأسس التي قامت عليه، كما أن النيجيريين الذين تحدثت معهم خلال زيارتي الأخيرة إلى البلد اكتفوا بالتنديد بأفعالها والأفكار المتشددة التي يسعون إلى فرضها على السكان المحليين. لكن رغم التنديد بتكتيكاتها تمتلك الحركة عدداً مهماً من الأتباع في المناطق الفقيرة شمالي شرق البلاد، حيث يقول «باي بيتر جومتا»، العضو في البرلمان النيجيري من المنطقة «95 في المئة من شبابنا في بورنو مرتبطون بطريقة، أو بأخرى مع بوكو حرام، فالشباب الذين لا أمل لهم في المستقبل ينتهي بهم المطاف فريسة سائغة في أيدي التطرف»؛ والحقيقة أن نيجيريا بمواردها الهائلة، إذ تعتبر أكبر منتج للنفط في أفريقيا، وتمتلك أخصب الأراضي بتساقطات مطرية مهمة، وبقوتها البشرية، مؤهلة لتكون أفضل من وضعها الحالي في مجال التنمية الاقتصادية، لكن مع ذلك تراجعت نتائجها التنموية منذ الطفرة النفطية في ثمانينيات القرن الماضي، والسبب أن نيجيريا تعاني تغلغل الفساد في الدولة، وتمدد أذرعه إلى جميع هياكلها. وفي شهر فبراير الماضي تمت إقالة محافظ البنك المركزي لأنه فتح تحقيقاً في اختفاء ما يقارب 20 مليار دولار من مداخيل النفط على مدى 18 شهراً فقط، بحيث يُعتقد أن مسؤولين كباراً اختلسوا الأموال ليتم تبييضها بمساعدة البنوك المحلية والدولية. وعلى غرار الدول الأخرى التي تعاني مستويات فساد مرتفعة، تتجذر عمليات الاختلاس والنهب في بنية النظام. فالموظفون الحكوميون في أسفل السلم عليهم دفع إتاوات إلى مسؤوليهم، أو أخذ رشى من المواطنين، ولا تخلو معاملة في نيجيريا، سواء مع الممرضين، أو المدرسين، أو الأطباء من الحاجة لدفع المال. هذا الفساد «المؤسسي» في نيجيريا دفع العديد من النيجيريين إلى التعامل مع «بوكو حرام» باعتبارها رد فعل عنيفاً على التجاوزات الهائلة في البلاد، وهو ما يوضحه «ياسونا زاكاري ياؤوا»، مدير منظمة للمجتمع المدني تدعو للشفافية، قائلاً «في البدء كانت الدعوة لإحقاق العدالة، ولأن المؤسسات العلمانية كانت عاجزة عن أداء دورها ظهرت «بوكو حرام» كبديل، وعندما قمعتهم الحكومة في 2009 تدثروا بخطاب المظلومية، وقالوا إنهم يريدون تطهير المجتمع، ومع أن هذه الدعوة قد لا تكون حقيقية، إلا أنهم استطاعوا تعبئة الناس، وهو سبب تجذرهم في المنطقة». وقد اقتصرت الحركة في البداية على استهداف مراكز الشرطة التي يكرهها النيجيريون بالنظر إلى تجاوزاتها الكثيرة، هذا الأمر أكده أحد المدربين الغربيين الذي عمل مع الشرطة النيجيرية، قائلاً «إنها الأسوأ من أي مكان آخر»، لكن النيجيريين يوفرون استياءهم الأكبر ضد الموظفين الحكوميين ويخصونهم بالانتقاد الشديد، فعندما تصل مداخيل النفط إلى الخزينة العامة يتم توجيه مبالغ كبيرة إلى الصفقات العمومية المزيفة، وهو ما أوضحه لي موظف في وزارة الدفاع النيجيرية حول كيف يتم تزييف العقود، إذ بالإضافة إلى العقود الرسمية بمبالغ كبيرة، هناك عقود غير رسمية لا يعرف بها إلا عدد محدود من الناس ليذهب الفرق إلى جيوب الموظفين. وفي هذا السياق ينظر العديد من النيجيريين إلى التعليم الذي يُفضي إلى مثل هذه الوظائف المدرة للمال الفاسد على أنه وسيلة لتعميق هذه التجاوزات وليس لامتلاك مهارات جديدة، ولأن هذا النظام التعليمي الذي يقود إلى وظائف في الدولة من بقايا الاستعمار البريطاني وارتبط في الأذهان بالامتيازات التي يمنحها لحامل الشهادة، فقد كان الهدف الرئيس لحركة «بوكو حرام»، بل إن اسمها مشتق من مناوئة هذا النظام التعليمي المغذي للفساد. وليس غريباً في ظل هذا الواقع أن يختار المسؤولون العسكريون الأميركيون عباراتهم بعناية عند حديثهم عن المساعدة الأميركية لنيجيريا في مكافحة الإرهاب، مشيرين إلى صعوبة العثور على وحدات في الجيش النيجيري يمكن للولايات المتحدة التعامل معها بالنظر إلى انتهاكاتها لحقوق الإنسان، وبالطبع لا يعني ذلك أنه على أميركا الامتناع عن استرجاع الفتيات المختطفات، لكن عليها ملاءمة جهودها بطريقة تستهدف الأسباب العميقة التي غذت تطرف «بوكو حرام»، أو على الأقل التخفيف من المبررات التي تدعم خطابها، بحيث يتعين على واشنطن الضغط على الحكومة لمواجهة الفساد المستشري على نطاق واسع، وتحسين سجلها في مجال حقوق الإنسان من خلال ربط أي مساعدات عسكرية بالكف عن التجاوزات. نوع المقال: سياسة دولية