مصر على أبواب انتخابات رئاسية "مضروبة" أو "برّانى"، بالتعبير الشعبي المصري، تأتي عقب انقلاب عسكري بامتياز، تم فيه استيلاء القيادة العامة للقوات المسلحة، ممثلة في مجلسها الأعلى، على السلطة، أو على الأصح، استعادتها كاملة، بعد أن كانت قد سمحت بأن يشغل مواطن مصري مدني منتخب منصب رئاسة الجمهورية عاماً واحداً. ولم يكن من قبيل المصادفة أنه كان منتميّا الى تيار الإسلام السياسي الرئيسي في مصر، هو "الإخوان المسلمين"، وحزبهم السياسي "الحرية والعدالة"، والذي تأسس عقب ثورة 25 يناير، بل كان أمراً طبيعياً في ظل الأجواء الثورية التي سادت الشارع المصري في ذلك الوقت، وأيضاً مع غياب التنظيمات السياسية الحقيقية، ذات التوجهات المتباينة والقواعد الجماهيرية الملموسة، القادرة على التنافس. وعلى الرغم من ذلك، كانت تلك الخطوة الأولى الطبيعية، والصحيحة، لبداية مرحلة تحول ديمقراطي حقيقي في مصر، فقد جاء الرئيس عبر الصندوق في انتخابات حرة ونزيهة وتنافسية، كانت جولتها الأخيرة شديدة الصعوبة، حيث ألقى فيها (نظام يوليو)، بكل إمكاناته وقدراته الهائلة، خلف مرشحه في ذلك الوقت، الفريق أحمد شفيق. وكاد النظام أن يعيد تثبيت أركانه بالفعل، عبر الصندوق لولا يقظة الناس البسطاء، وإصرارهم، في تلك اللحظة التاريخية النادرة، على رفض استمرار النظام، بالإضافة إلى سبب آخر، هو أن طرح الفريق شفيق مرشحاً، في ذلك الوقت، لم يكن الطرح المناسب، ليمثل بديلاً، يمكن تسويقه للناس في مواجهة مرشح "الإخوان المسلمين"، فكانت النتيجة المنطقية فوز المنافس الذي كان قادماً، وليس من قبيل المصادفة، من تيار الإسلام السياسي، وهو الإخوان المسلمين، ولم يكن أمام حراس نظام يوليو، وفي ظل الأجواء السائدة في ذلك الوقت سوى التظاهر بقبول الأمر، واحترام الإرادة الشعبية التي تجلت عبر الصندوق! كان عليهم، أقصد "حراس النظام"، أن يعيدوا تقدير الموقف بكل جوانبه من جديد، والباحث يجد نفسه مضطراً لاستخدام الهندسة العكسية، لتفكيك المشهد شديد التعقيد، منذ 30 يونيو/حزيران 2012، عندما أظهر الجميع قبولهم بنتيجة الصندوق الذي كان بحق صندوق السلامة. ومع بداية مرحلة التحول الديمقراطي وخوض التجربة لبناء نظام سياسي يرتكز على إرادة الاغلبية، وحتى يونيو 2013، ونحن أمام نتيجة صندوق آخر معروفة ومحددة مسبقاً، وهو بحق صندوق الندامة، والذي يرتد بمصر بشكل مذهل ومثير، بل ومزرٍ، لإعادة إنتاج تجربة زمن فات، زمن الشمولية والزعيم الملهم والقائد الضرورة الذي هو مرشح الضرورة، طبقاً لتعبير فيلسوف ذلك الزمن الذي فات. وعودة إلى الهندسة العكسية في محاولتنا فهم ما جرى، وما يجرى على بر مصر. عندما نفكك المشهد، نكتشف أن حراس نظام يوليو وجدوا أنفسهم في 30 يونيو/حزيران 2012 أمام ثلاثة مستجدات: الأول، أمام إرادة شعبية حقيقية، حددت اختياراتها في انتخابات حرة، جرت تحت أعين وتأمين حراس النظام أنفسهم، ثانياً أن صندوق الانتخاب الحر كشف عن إرادة الأغلبية، وليس أمام حراس نظام يوليو سوى القبول بتلك الإرادة، وإن كان قبول المضطر. ثالثاً، الرئيس الذي جاء عبر صندوق السلامة جاء يحمل مشروعاً جديداً، أقل ما يوصف به أنه تغيير لنظام يوليو، وبناء نظام سياسي مختلف. رابعاً، المصريون البسطاء الذين هم الاغلبية التي فرضت إرادتها في صندوق السلامة، في حالة نشوة كبيرة، لابد من احتوائها. تلك هي المستجدات التي أفرزتها التطورات من 25 يناير/كانون ثاني 2011 وحتى 30 يونيو/حزيران 2012، والتي أدركها جيداً حراس نظام يوليو. ونستكمل تفكيك المشهد عبر الهندسة العكسية، لنكتشف حقيقة مهمة، هي أن حراس النظام كان مستحيلاً عليهم التسليم والقبول بهذه المستجدات، لأن فيها نهاية نظامهم، وأيضاً لم يكن في مقدورهم مواجهتها صراحة وبعنف، في ظل نشوة الشارع والجماهير البسيطة في لحظة انتصار، كانت تمثل حلماً بعيد المنال. هنا، بدأ التفكير بهدوء وحنكة شديدة، وواضح، الآن، بتفكيك المشهد أن الخطة اعتمدت على ثلاث ركائز: الأولى: إظهار القبول بنتيجة صندوق السلامة، والاحتفاء بالرئيس المنتخب بروتوكولياً، وتسليمه المنصب من دون تسليمه السلطة! وهو سيمنعه كبرياؤه من إعلان ذلك، وسيحاول أن يمسك بالسلطة تدريجياً، ولكن، هيهات، فبيدهم مفاتيح كل الأمور. الثانية: العمل الدؤوب والهادئ والمركز على إفشال الرئيس، أو إظهاره في صورة الفاشل. الثالثة: مهمة للغاية، إيجاد إرادة شعبية افتراضية، لتكون موازية، أو عوضاً عن إرادة انتخاب الرئيس في يونيو/حزيران 2012، فإذا كان قد جاء مستنداً الى إرادة شعبية، فلنعزله أيضاً، بإرادة شعبية، ولو كانت افتراضية، وهو ما حدث في 30 يونيو و3 يوليو 2013. كان هذا ما جرى. الركيزة الرابعة في مخطط حراس يوليو، وهي الأكثر أهمية على الإطلاق: الصندوق. الرئيس المنتخب جاء بالصندوق، فلا بد أن ننسى هذا الصندوق تماماً، من خلال صندوق آخر؟ وهو ما تم ترتيبه، فيما أطلق عليه خريطة المستقبل، والتي بدأت بتعيين رئيس مؤقت، وتعيين لجنة لوضع دستور، يطور نظام يوليو، ويدمج مؤسسة الرئاسة مع المؤسسة العسكرية، ويقسم السلطة بينهما، ثم ضربة النهاية بأن يكون ذلك كله عبر صندوق، وبالتالي، تم النص في دستورهم المطور على إجراء انتخابات رئاسة الجمهورية، ليأتي رئيس جديد بصندوق جديد. ولتكتمل الملهاة، لابد أن تكون هناك انتخابات افتراضية، لأكثر من مرشح، فتم الدفع بمرشح آخر إلى جانب مرشح الضرورة، عُرف بالمرشح رغم أنفه! وانطلقت الأبواق الإعلامية، ليلاً ونهاراً، أن مصر مقبلة على انتخابات تنافسية، وحملات انتخابية، ولجان انتخابية، ومراقبين محليين ودوليين. في محاولة فجة لتسويق الصندوق الجديد. ولكن، فات تلك الأبواق أن جماهير الشعب من المصريين البسطاء، أصحاب الحق الأصيل، في هذا الوطن، سبق لهم أن خرجوا في طوابير طويلة بالملايين، ووقفوا ساعات أمام صناديق الانتخابات في يونيو/حزيران 2012، وهم يعتقدون عن حق بأنهم أمام صندوق السلامة لفتح الطريق أمام مستقبل جديد، لشعبٍ عانى كثيراً من القهر والظلم، ولاحت له فرصة حقيقية، ليستعيد حريته، ويفرض إرادته. لكن، بعد 3 يوليو 2013، هناك من يريد حجب هذا الصندوق، ومحوه من ذاكرة المصريين، واستبداله بصندوق آخر، حتما سيكون صندوق الندامة. المصريون أمام تحد جاد، للاختيار ليس بين مرشح الضرورة ومرشح رغم أنفه. ولكن، للاختيار بين صندوق السلامة والتمسك به وصندوق الندامة والعزوف عنه. رابط المقال: http://goo.gl/cnJuQE