يبدو أن سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي سابقاً في مطلع تسعينيات القرن الماضي، لم يشكلا نهاية كاملة للحرب الباردة. فما تشهده الساحة الدولية الآن هو إنتهاء فعلي للقطبية الأحادية وعودة الحرب الباردة من جديد ما لم تتطوّر وتتحوّل إلى لهب يستعر أوراها بين واشنطنوموسكو. لم يشهد الندان القويان حرب مواجهة على أراضي أحدٍ منهما من قبل، وطالما اشتبكا بشكل مباشر وغير مباشر على أراضٍ يدعي كل منهما أنها تعدُّ امتداداً لنفوذه الإستراتيجي. جاءت الاحتجاجات الأوكرانية –التي تعتبر إلى كبير مستوحاة من الربيع العربي- لتشعل جذوة الحرب الباردة من جديد، حيث تراى فيها موسكو تهديداً لمصالحها المباشرة لذا قررت إعلان الحرب عندما فوّض الكرملين بوتين تحريك قواته العسكرية للسيطرة على أوكرانيا بالقوة بعد خلع الرئيس الأوكراني على يد ثوار مواليين للغرب. الأمر الذي أثار موجات غضب عارمة في أوروبا والولايات المتحدة. وقد تجلّت خطورة الوضع وانسداد أفق الحل من المكالمة الهاتفية الساخنة التي استمرت لمدة ساعة ونصف بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي باراك أوباما السبت الماضي، حيث أبلغ بوتين أوباما أن روسيا لها الحق في حماية مصالحها والسكان الناطقين باللغة الروسية في شرق أوكرانيا وشبه جزيرة القرم في حال حدثت "أعمال عنف". في حين أعتبر أوباما التدخل العسكري انتهاك للقانون الدولي محذراً بوتين من أن "روسيا ستواجه عزلة متزايدة إذا أصرّت ورفضت إعادة القوات". فهل يتجرأ أوباما على التحدي الصارخ للاقتحام العسكري من قبل روسيا لشرق أوكرانيا ويتدخل عسكرياً هو أيضا؟ إلى هذه اللحظة لم يواجه الغرب وأمريكا التصعيد الروسي سوى بالتهديدات الكلامية بعزل سياسي سيطال روسيا وربما اقتصادي، بالفعل انسحبت كل من واشنطن وباريس ولندن من الاجتماعات التحضيرية لمجموعة الثمان في مدينة سوتشي الروسية. إلا أن هذه التهديدات فارغة من محتواها وليس بإمكانها تغيير صورة الوضع ولن تمنع بوتين من خوض حرب ضروس في سبيل استعادة أوكرانيا إلى حلفه. ومعروف إن بوتين ذو العقلية العسكرية والقادم من خلفية استخباراتية لا تقض مضجعه الأزمات الدبلوماسية ولا يلقي لها بالاً فكل ما يفهمه هو القوة. وقد حاول أوباما سابقاً إحراج بوتين دبلوماسياً عندما هدد بإلغاء زيارة مجدوَلة لروسيا في أيلول/سبتمبر الماضي للضغط على بوتين لتسليم الجاسوس الأمريكي "ادوارد سنودن" الذي هرب إلى روسيا، وكانت النتيجة أن موسكو منحت "سنودن" حق اللجوء المؤقت وأُلغيت الزيارة المجدوَلة، على الرغم من ذلك عاد أوباما وألتقى نظيره بوتين في اجتماعات قمة العشرين في سان بطرسبورغ مكتفياً بالتعبير عن خيبات أمله أمام الشاشات عن تصرفات القيادة الروسية. من المتوقع أن يزيد قرار الحرب الذي أتخذه بوتين حدة التوتر بينه وبين أوباما، ولكن الأخير يخشى إذا ما قرر التدخل هو أيضاً من زيادة تخبط سياسة البيت الأبيض التي تسعى لتحقيق تعاون مع الكرملين لوقف الهولوكوست السوري وتشجيع المفاوضات بشأن البرنامج النووي الإيراني، هذا إضافة إلى قرار الكونغرس الأمريكي بخصوص سحب جزء من القوات الأمريكية من أفغانستان خلال العام الجاري عبر تنظيم طرق الانسحاب ونقل الآليات والمعدات العسكرية عبر الأراضي الروسية. وعلى الرغم من كثرة الانتقادات والتحذيرات يبدو أن الرد الأمريكي لن يخرج عن نطاق التهديدات الكلامية خاصة إذا تمعّنا بوصف أوباما لما يجري أن "عدم الاستقرار في أوكرانيا لا يخدم سيادة الدولة الأوكرانية ولا يخدم روسيا ولا حتى أوروبا" نلاحظ من الاقتباس تخفيف لهجة التصعيد فلم يقل أن عدم الاستقرار هناك يضرّ بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية. إذاً الغرب وأمريكا أمام تحدٍ كبير وربما الأكبر منذ نهاية الحرب الباردة لاسيما وأن أوكرانيا على تخوم روسيا وعبرها تنقل موسكو الغاز إلى أوربا كما تعتبرها أوروبا السلة الاقتصادية الأكبر بالنسبة لها.. فهل سيترك أوباما الثوار الأوكرانيين وحلفاءه الغرب يواجهون روسيا بمفردهم؟ لا شك بإن الأوضاع في أوكرانيا لها تداعياتها على الأوضاع في سوريا التي ترمي موسكو جلّ ثقلها في الدفاع عن حليفها المجرم نظام الأسد.. فهل سنشهد تنازلاً أو مقايضة في إحدى الورقتين -مع الأخذ بعين الإعتبار الأهمية الحيوية لأوكرانيا بالنسبة لموسكو- أم سيقرر بوتين خوض الحرب إلى النهاية؟ إلى هذه اللحظة لا يعوّل قطاع واسع من الشارع السوري لا سيما الثائر على تداعيات إيجابية من الورقة الأوكرانية، كونه يؤمن جازماً بعدم جدية الغرب وأمريكا في السعي لإسقاط نظام الأسد المجرم بل يرى تجلي الإرادة الدولية الساعية لإركاع الثورة والقضاء عليها، بينما تتمسك روسيا ودول أخرى بالأسد وتدعمه كما يقول السوريين "للعظم" وكأن ببوتين يريد أن يحمل "البطيختين" بيد واحدة.