لكي تشتهر مدينة ما بأنها إحدى أعظم مدن العالم، يتعين عليها أن تتمتع بسمة فريدة واحدة على الأقل. وفي حالة مدينة غرناطة، فقد اتسمت بأنها تتمتع بما لا يقل عن أربع سمات فريدة. وتتمثل السمة الأولى في موقعها الموجود بصورة حرفية، عند سلسلة الجبال المعروفة باسم سييرا نيفادا. ومن الصعب الاعتقاد بأن روائع الحمراء ليست ثمارا للقوة العسكرية والثروات المادية والفنية، التي أحرزها العرب في ذروة حضارتهم في الأندلس، وجاءت تعبيرا عن بحبوحة العيش والثقة التي جعلت من الممكن مثلاً بناء مسجد قرطبة الجامع الكبير. والحقيقة أنه بحلول الوقت الذي بوشر فيه بناء قصر الحمراء، كان الإسبان قد حولوا مسجد قرطبة إلى كاتدرائية. وكان عام 1238 قد حل قبل أن يبدأ العمل في مجمع الحمراء، أي بعد عامين من سقوط قرطبة والانهيار النهائي للخلافة التي تمركزت في هذه المدينة التي لا نظير لها. وخلافا لقرطبة التي تمتعت بالتميز في ظل الرومان قبل أن تبرز باعتبارها عاصمة للأندلس، فإن غرناطة لا يعتقد أنها كانت مكانا يعود إلى عهد بعيد من الزمن، وبالتأكيد لم تنل حظا من الشهرة حتى وقت متأخر، فهي على امتداد جانب كبير من تاريخها المبكر، كانت تقطنها جماعة كبيرة من اليهود من ذوي النفوذ، وعرفت باسم "غرناطة اليهود" أو "مدينة اليهود". تم تمهيد طريق غرناطة إلى الشهرة على يد الزيريين، وهم عائلة مالكة تنتمي إلى شمال إفريقيا، تأثروا في القرن الحادي عشر بموقع غرناطة الاستراتيجي الطبيعي وخصب الأراضي المحيطة بها، فجعلوها عاصمتهم في الأندلس، وفي ظلهم أصبحت واحدة من أقوى مدن ملوك الطوائف وأكثرها ازدهارا في الأندلس. ويرجع ازدهارها في جانب منه إلى قربها المناسب من شمال إفريقيا، التي نشط تجارها في إجراء المعاملات مع نظرائهم هناك، حيث يقع الساحل الإفريقي على بعد حوالي 40 ميلاً إلى الجنوب، ويقال إن بمقدور المرء في الأيام الصافية أن يرى جبال الريف من ذرى جبال سييرا نيفادا. من المثير للحيرة حقا أنه مع سقوط السلطة الإسلامية في الأندلس، الذي بلغ ذروته بسقوط قرطبة عام 1236، رويت بذور عظمة غرناطة، حيث إن المسلمين في الأندلس بعد انتزاع قرطبة منهم، تطلعوا إلى غرناطة باعتبارها ملاذهم الواضح، واستفادت المدينة إلى حد كبير من نزوح المسلمين إليها ومن المهارات التي جلبوها معهم. وفي عام 1231، كان محمد بن الأحمر قد أسس العائلة المالكة النصرية في غرناطة، ويعود الفضل إليه وإلى من أعقبوه، بأن العالم لايزال ينظر بعين الاندهاش إلى الحمراء. كان نسب بني الأحمر رفيعا ومميزا، حيث انحدروا من الصحابي الجليل سعد بن أبي عبادة. وبعد أن استقر ابن الأحمر في غرناطة في وقت تراجعت فيه القوى الإسلامية في شبه الجزيرة، بدأ العمل بعد ذلك بسبع سنوات على مجمع الحمراء، وكان في وضع ضعيف سياسيا وعسكريا، ولم يعترف به فرديناند ملك قشتالة كحاكم لغرناطة، إلا بعد أن سلمه بلدة تقع إلى الشمال منها مباشرة. وبعد عامين، أي في عام 1248 عندما استولى فرديناند على إشبيلية، كان ذلك بمساعدة غرناطة. وهكذا فإن هذه المدينة رغم ثروتها المتزايدة، لم تواصل التمتع بوجودها المترف إلا من خلال شراء الحصانة من قوة خصومها، حيث دفعت لهم مبالغ طائلة كل عام، من الذهب الذي حصلت عليه من السودان، وكان ذلك العهد حافلاً بالقلاقل التي تدور حول هذا الذهب. وفي هذه الظروف الصعبة أنجزوا بناء الحمراء، رغم الضغوط الخارجية، وتعرض استقرارهم في الداخل للخطر. بعدما يزيد على 100 عام من بدء مؤسس سلالة آل نصر العمل في الحمراء، اقترب يوسف الثالث وخلفه محمد الخامس، من تحقيق إنجاز مجمع معماري متجانس ومتداخل، استغرق طاقات وموارد 20 حاكما من آل نصر. ويبدو واضحا مدى اضطراب الفترة التي تحقق فيها هذا الإنجاز، من خلال القصص التي تدور حول الطريقة المفاجئة والدرامية التي لقي بها معظم حكام هذه العائلة مصرعهم. فبعد خمس سنوات من إكمال مجمع الحمراء عام 1349، اغتيل يوسف الثالث في مسجد الحمراء. وبعد 20 عاما من مصرعه، أجبرت المؤامرات الوزير والمؤرخ لسان الدين بن الخطيب على الهرب إلى فاس عام 1374، حيث وجهت إليه تهم خطيرة من بينها الزندقة، ولكنه قبل أن يحاكم قتل على يد زمرة من المتعصبين الذين اقتحموا سجنه. وكان خلال ذروة سلطته قد تمتع بنفوذ كبير في بلاط آل نصر، وكتب سيرته صديقه ومعاصره المؤرخ الكبير ابن خلدون، الذي كان هو نفسه قد أمضى بعض الوقت في خدمة آل نصر في غرناطة. بعد إكمال بناء مجمع الحمراء، ظل مقرا للعديد من حكام آل نصر على امتداد ما يربو على 100 عام أخرى، ثم جاء السقوط المأساوي الكبير. ففي عام 1468 انطلق فرديناند وإيزابيلا في حملاتهما، التي استهدفت إخراج المسلمين من شبه الجزيرة. ومنذ عام 1481، تعرضت غرناطة للضعف من خلال 10 سنوات من الصراعات الداخلية. وقد حلت هذه الفترة من المتاعب والفرقة والخلاف، في وقت لم يعد أعداؤها راضين بما يتلقونه منها كل عام من ذهب. وقد سقط بناء ملقة المهم، وظلت غرناطة المعقل الأخير للإسلام والمسلمين في الأندلس، لكن بقية القصة تستحق حديثا آخر. نوع المقال: عام