قبل بضعة أشهر، اهتز العالم العربي بسبب مقال نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» يزعم تفصيل جهود إدارة أوباما الرامية إلى التخلي عن الشرق الأوسط، دون الالتفات إلى أن الرئيس الأميركي كان قد كشف لتوه في خطابه السنوي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عن أولوياته في العام الجديد. وركز أوباما في خطابه على التزامه تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والحرب في سوريا والتهديد الذي يمثله برنامج إيران النووي، والجهود الرامية إلى بناء مجتمعات أكثر ديمقراطية، وعلى رغم كلماته وأفعاله التي أعقبت ذلك، إلا أن الاعتقاد بأن الولاياتالمتحدة قد تتخلى عن المنطقة لايزال سارياً. ومع دخولنا الوشيك في عام 2014، من الواضح أن المخاوف بشأن تخلي الولاياتالمتحدة عن المنطقة لا أساس لها، فهي لن تذهب إلى أي مكان آخر، وإن كانت وعود الشرق الأوسط تبدو معقدة ومنطوية على تحديات بالنسبة لصناع السياسة الأميركية كما كانت في العام المنتهي أيضا، لاسيما في ظل مجموعة الصراعات المربكة والأزمات المنتشرة في أنحاء المنطقة، التي ستنخرط في التعامل معها الولاياتالمتحدة خلال العام الجديد. وتشير عقارب الساعة إلى اقتراب الموعد المحدد لمحادثات السلام الإسرائيلية الفلسطينية، بعد أن منح وزير الخارجية الأميركي المفاوضين مهلة تسعة أشهر للتوصل إلى اتفاق إطار عمل، ولكن من المتوقع أن تقدم الولاياتالمتحدة في العام الجديد أيضاً اقتراحها الخاص. وفي حين لا تكاد حكومة نتنياهو تبدي عزماً على تخفيف قبضتها على الأراضي المحتلة، ولايزال الطرف الفلسطيني في موقف صعب ومنقسم بعمق، تبدو احتمالات النجاح ضئيلة، وعلى رغم استثمار الولاياتالمتحدة بكثافة في هذه العملية، فإن مخاطر الإخفاق تبدو كبيرة أيضا. وعلاوة على ذلك، من المفترض عقد محادثات الأطراف السورية التي باتت تعرف باسم مؤتمر «جنيف 2» في نهاية شهر يناير المقبل، ولكن ثمة شكوكا كبيرة في إمكانية عقد هذا المؤتمر، ذلك أن المعارضة في حالة فوضى عارمة بسبب تراجع نفوذ الائتلاف السياسي والقوى العسكرية التي تعترف بها الولاياتالمتحدة لمصلحة ائتلاف مجموعات إسلامية لم يبد بعد رغبة في التوصل إلى حل تفاوضي. وفي هذه الأثناء، زاد النظام السوري من هجماته باستخدام عنف غير مميز ضد معاقل الثوار، وبينما لا يبدي أي من الفرقاء رغبة حقيقية في إنهاء الصراع، من المرجح إلغاء مؤتمر «جنيف 2» أو تأجيله مرة أخرى، وعليه، فعلى رغم المخاطر، سيحول إلحاح البحث عن حل للصراع دون أي فك ارتباط أميركي. ومع استمرار الصراع السوري، أسفرت أزمة اللاجئين التي تتسع عن تحديات إضافية أخرى يجب التعامل معها هي أيضا، فهي بداية وقبل كل شيء كارثة إنسانية في ضوء إجبار ما يربو على مليونين ونصف المليون سوري على ترك وطنهم، وهم يعيشون في ظروف قاسية في دول الجوار، وهذا ما لا يمكن تجاهله. ويمثل لجوء زهاء مليون سوري إلى لبنان وحده مبعث قلق أساسي، إذ إن تواجدهم ومشاركة بعض الجماعات اللبنانية في الصراع السوري وتورط وكلاء أجانب في لبنان يعرض بيروت الآن لخطر تحولها إلى جبهة جديدة في الحرب السورية. ومن المزمع أيضا عقد الجولة التالية من محادثات مجموعة «5 1» مع إيران، وقد تحملت إدارة أوباما في تقاربها مع طهران مجازفة محسوبة، حيث يمكن التوصل إلى حل تفاوضي يزيل التهديد الذي يمثله البرنامج النووي الإيراني. ولكن ذلك سبب تمزقا في علاقات الولاياتالمتحدة مع إسرائيل وبعض الدول الإقليمية، ومن ثم لن تحدث هذه المحادثات في حال وجود توتر. وفي حين كانت الإدارة الأميركية قادرة على منع مؤيدي إسرائيل في الكونجرس مؤقتاً بعد أن هددوا بفرض عقوبات جديدة ضد إيران قبيل المحادثات، إلا أن التهديد باتخاذ إجراء عقابي في الكونجرس لا يزال قائماً. ومن بين التعقيدات الإضافية لهذه المفاتحة مع إيران تلك التوترات التي سببتها مع بعض الحلفاء الإقليميين، فمنذ قيام الثورة الإيرانية في عام 1979، تشعر بعض الدول العربية بتهديد جهود طهران الرامية إلى تصدير ثورتها. وخلال العقد الماضي، بدت تدخلات إيران واضحة في العراقولبنان واليمن أكثر وضوحاً في سوريا، ولذا فإن فتح الولاياتالمتحدة مفاوضات مع طهران من دون مناقشة حلفائها الإقليميين، سبب تراجعاً في الثقة سيتطلب انتباهاً واهتماماً خاصاً أثناء العام الجديد. وإذا لم تكن هذه الصورة معقدة بما يكفي، فعلى الولاياتالمتحدة الإسراع في التعامل مع تطور الأوضاع في مصر، فمنذ سقوط نظام مبارك في يناير 2011، أصبحت السياسات الأميركية متذبذبة في علاقتها مع مصر. ومنذ احتجاجات عارمة نظمتها حركة «تمرد»، اتسعت إلى ثورة شعبية عزلت مرسي وحكومته في الثالث من يوليو الماضي، تحاول الولاياتالمتحدة العمل مع الواقع الجديد، وتحض الجيش والحكومة الانتقالية على الوفاء بخريطة الطريق المقررة، ومن ثم استعادة الحكم المدني المنتخب. والقلق الآن أن تتعرض ليس فقط خريطة الطريق ولكن استقرار الدولة المصرية بأسرها إلى الخطر في عنف جماعة «الإخوان المسلمين» ومخاطر الهجمات الإرهابية الأخيرة. وبالنظر إلى أن هذه الأزمات والصراعات ستحتاج إلى تركيز الانتباه، لا تمتلك الإدارة الأميركية ترف الاختيار أو حتى ترتيب أولويات القضايا التي ينبغي أن تتعامل معها أولاً، وعلاوة على تعقيد هذه التحديات ثمة أمران واقعان أيضاً، هما أن الولاياتالمتحدة لديها خيارات محدودة، كما تعاني تراجع الثقة في أنحاء المنطقة. وربما يدعو «صقور» السياسة الخارجية الأميركية إلى مزيد من الردود القوية، تتضمن عقوبات جديدة، والتدخل في صراعات المنطقة، وتهديدات بسحب المساعدات، ولكن الواقع أنه بعد حربين كارثيتين ومكلفتين، يخامر الشعب الأميركي القلق من التورط الخارجي. وبعد عقود من الإخفاقات وعدم توازن السياسات تجاه الشرق الأوسط، فإن الإدارة الأميركية تتحسس خطاها وسط تراجع كبير في تأييد الرأي العام العربي. ونقطة البداية هي إعادة بناء الثقة ليس فقط عن طريق التصريحات العلنية، ولكن أيضاً من خلال الأفعال، وأولى فرص تغيير المفاهيم العربية ستسنح عندما تقدم الإدارة الأميركية مقترحها الذي يهدف إلى جسر الهوة من أجل حل الصراع العربي الإسرائيلي. وبقدر ما يوازن هذا المقترح بين متطلبات الأمن والعدالة، يمكن أن يحدث أيضاً تحولاً تتكرر أصداؤه في أنحاء المنطقة. وعقب ذلك، لابد من بذل جهود لإشراك الحلفاء العرب في المناقشات الأمنية الإقليمية، وإذا كان من المتوقع أن يكونوا شركاء، فإنهم يتوقعون أن تتم معاملتهم كذلك. وستكون استعادة الثقة هي التحدي الأكبر في العام الجديد. نوع المقال: سياسة دولية الولاياتالمتحدةالامريكية الشرق الاوسط