لطالما عِشتُ وأنا أحمل قناعةً بأن دراسة قوانين الفيزياء (الكلاسيكية والكمّية) بطريقة صحيحة، تعطيكَ قدرةً على فهم متلازمات هذا الكون ومُجرياته بشكل فريد. من أحد قوانين الفيزياء الكلاسيكية في خواص الموادّ، قانون "هوك"؛ والذي يقول بلغة بسيطة: (إن المادة الصلبة تستجيب للضغط الواقع عليها بتزايد هذا الضغط، ما دامت تحتفظ بالحدّ الأدنى من مرونتها). ويُفهَم مِن هذا - ببساطة أيضًا- أن الوسط الصلب الذي يقع عليه الضغط يعطي استجابة لهذا الضغط لا تؤثّر على تماسك مادته، مادام هذا الوسط الصلب محتفظًا بالحدّ الأدنى من مرونته (معامل المرونة)، الذي كلما زاد زادت فرصة بقائه متماسكًا مع استجابته بقدرٍ ما لهذا الضغط. ولذا عند الضغط على الحديد ينثني (معامل مرونته أعلى) بينما الخشب ينكسر (معامل مرونته أقل). ويمكننا أن نرى انعكاسًا لهذا التطبيق في حالة الدولة المصرية مؤخرًا، والممارسات المدروسة المنظّمة لمجموعات اليسار العنيف والبلاك بلوك والبلطجية، في مقابل حالة إحلال فصيلٍ بعينه في مؤسسات الدولة بشكلٍ مطّرد. حيث تمثّل الدولة المنبسطة على سطح الخريطة (الوسط الصلب)، بينما تمثل هذه المجموعات (الضغط الواقع على هذا الوسط). والمُلاحَظ من طريقة ممارسة هذه المجموعات العُنفية لضغطها، أنها تتبع - بوعي أو بدون وعي- أحد تطبيقات قانون "هوك"! وتساعدها في هذا التطبيق - بدون وعي- حالة الإمداد والإحلال و"الحشو العجيني" المصطَلَح عليها ب"الأخونة". كي أقرّب لك الأمر، تخيّل الآتي: أمامك قالب من العجين الناشف وأريد تفتيته بدون إحداث أي ضوضاء. حسنًا ضربةٌ صغيرة قرب هذا الطرف، ودقّة أخرى في المنتصف، وثالثةٌ خافتة قرب طرفٍ آخر، ورابعة على الجهة المقابلة.. الآن ادعُ أحدّهم لحمل هذا القالب الذي يرقد متماسكًا.. سيأتي ليحمله بالفعل، ولكنه سيتفتّت بمجرّد تحريكه أو رفعه! هذا بالضبط ما يتمّ توجيه مجموعات العنف (اليسار والبلاك بلوك والبلطجية) إليه؛ على أمل أن يكون تماسك الدولة المصرية على قدرٍ من الصلابة الظاهرية والهشاشة الحقيقة ولا تعرف حدًا أدنى من المرونة يمكّنها من الحفاظ على تماسكها. ولذا شاهدنا تنويعات على هذا التطبيق خلال الشهور الثلاثة الأخيرة في صورٍ تنوّعت بين حوادث وأزمات وتظاهرات وأعمال عنف ودعوات لعصيان مدني؛ ففي فترة ما تزامن حادث قطارٍ مدبّر مع أزمة ينزين وسولار في مناطق بعينها. ثم رأينا أحداث عنف واشتباكات في مجموعة نقاطٍ جديدة مثّلتها الإسكندريةوالقاهرة وطنطا والمحلّة، ثم مجموعة نقاط أخرى في القاهرة وبورسعيد والزقازيق، ثم تركّزت مجموعة النقاط التالية في خطِّ شرخٍ متمثلة في السويس والاسماعيلية وبورسعيد، ثم انتقلت إلى تركيز جديد على بورسعيد والمنصورة، والبقية تأتي. كل هذه الطرقات والدقّات الضاغطة، كفيلة بتفتيت قالب العجين الصلب بدفعةٍ واحدة تأتي في وقت مناسب، وهو ما يطمح له المحرّكون لهذه المجموعات العُنفيّة. غير أن معامل مرونة الدولة كبير، وهذه إحدى نتائج الثورة إذ حدث تداخل بين المجتمع والدولة مما أعطى للدولة قدرًا أكبر من التماسك وقدرةً معيّنة على التفاعل مع الضغط - ليس استجابة له بالضرورة- وذلك حتى حين. من التجارب المعملية التي تمّ إجراؤها بشأن قانون "هوك"، تبيّن أن المادة الصلبة تمرّ بأربعة مراحل: 1- مرحلة المرونة: وفيها تحتفظ المادة بكامل مرونتها وتعود إلى طبيعتها إذا لم كان يتجاوز الضغط الواقع عليها مقدارًا معيّنًا (حدّ المرونة ويختلف من مادة لأخرى). 2- مرحلة اللدانة: وفيها لا تستطيع المادة استرجاع شكلها الأصلي بعد زوال القوة المؤثرة عليها وتحتفظ ببعض التشوهات؛ بسبب تجاوز الضغط عليها حدّ المرونة. 3- مرحلة الإذعان: وفيها يستمر تزايد معدّل التشوّه في المادة، رغم عدم تزايد الضغط الواقع عليها. وتنعدم تمامًا فرص العودة إلى شكلها الأصلي، وتكون مؤهلة للمرحلة التالية. 4- مرحلة القطع: نتيجة التشوّهات الهائلة التي لم تعد تحتملها المادة. الحقيقة أن الدولة المصرية مرشّحة في ظل هذه الضربات الضاغطة - المرشّحة بدورها للتزايد والتصعيد بغزارة ليس من المجموعات العُنفية المذكورة وليس في الداخل فقط- وفي ظل حالة "الحشو العجيني للمؤسسات" للوقوع تحت تهديد التفتيت؛ لأنها لا تملك بعدُ المقدارَ الملائمَ من المرونة، كما أنها لا تسعى إلى اكتساب مقدارًا أكبر من التماسك بما يرفع مُعامِل مرونتها. الحقيقة أيضًا، أن القيادة السياسية الحالية مُطالَبة وبقوة، برفع حالة تماسك الدولة – كنظام حكم ومؤسسات- عبر تطعيمها وإمدادها بشكلٍ مطّرد بفئات مختلفة من المجتمع – بدلاً من الاكتفاء بالعجين-، بما يُكسِبها قدرًا أكبر من المرونة والقدرة على الاحتفاظ بشكلها والعودة إليه بسلام، بعد زوال الضغط الواقع عليها واستيعاب مسبّباته وعلاجها. أي نعم، قد تتسبّب حالة التطعيم هذه في تواجد نسبة ضئيلة من الشوائب، إلا أن هذا لا يُعدّ شيئًا مقارنةً بخطر أن تكون مؤسسات الدولة من فصيلٍ واحدٍ يجعلها قالبًا من العجين سهل التفتيت. أرجو أن تنتبه القيادة السياسية للدولة لمثل هذا، وأن تعمل على ما فيه سلامة الدولة وتماسكها وصلاح حالها، خاصةً وأن الرئيس ذاته متخصّص في (خواص الموادّ)، ويُدرِك هذا الكلام جيدًا. هذا، مالَم تكُن رؤية الجماعة مقدّمةً - وأصحّ- عنده على قوانين الفيزياء.