إن تاريخ الثورات الحديثة شاهد على صحة هذا الرأي. لقد كانت الثورة الأميركية حميدة نسبيا (رغم اشتمالها على حرب الاستقلال واضطهاد الموالين المهزومين وطردهم)، لكن بعد مرور أكثر من عقد على توقيع الوثيقة الأصلية لإعلان الاستقلال في 1776 والمصادقة على الدستور في 1788. ثبت أن البنود الأصلية للاتحاد الكونفدرالي (1783) ليست ملائمة، واستؤنف الاقتتال حول وضع دساتير جديدة وكان في بعض الأحايين مريرا. ولا ينبغي أيضا أن ننسى أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة قد رموا بعضهم البعض بتهم أقرب إلى الخيانة، كما احتدم النزاع بين الفرق المختلفة بشكل أقوى من الجدل الذي نشاهده هذه الأيام بين الأحزاب. وقد امتد عمر الثورة الفرنسية بصورة مماثلة، إذ بدأت في عام 1789، لكن لويس السادس عشر لم يخلع عن العرش حتى عام 1792 وتعرضت فرنسا الثورة إلى الزعزعة بفعل الخلافات المتكررة من أجل السلطة، وشهدت مجيء حكومات ودساتير عدة إلى أن استحوذ نابليون بونابرت أخيرا على الحكم في عام 1799 وأعلن نفسه امبراطورا في نهاية المطاف. على هذا المنوال، لا يزال أمام مصر شوط طويل كي تقطعه. الثورة الروسية خاضت كذلك عملية مطولة: استبدلت سلالة رومانوف بادئ الأمر بحكومة كيرنسكي المؤقتة في آذار 1917، ثم طردت عند حدوث الانقلاب البلشفي في شهر تشرين الثاني. لكن البلشفيين اضطروا الى القتال وانتزاع النصر في الحرب الأهلية الممتدة وصد تدخلات أجنبية عديدة قبل إحكام قبضتهم على السلطة، وهي عملية لم تكتمل حتى منتصف العشرينات من القرن العشرين. واستمر النزاع الداخلي بين القادة السوفييت إلى أن تمكن ستالين من إقصاء خصومه الكثر والبروز كقائد أعلى في مطلع الثلاثينات من القرن ذاته. الثورات في تركيا والمكسيك والصين وايران اتسمت ايضا بالعنف والغموض، وفي كل واحدة منها، استغرق الأمر سنين طوال قبل اكتمال الشكل النهائي للنظام الجديد على نحو مقبول. ماو زيدونغ قال إن «الثورة ليست حفل عشاء»، ولا يسع المرء أن يضيف سوى أنها نادرا ما تكون قصيرة المدة. ثمة دروس عدة مستفادة من هذا السرد المقتضب للتاريخ. أولا، ما لم يستطع النظام القديم استعادة السلطة الكاملة سريعا (وبالتالي قطع أوصال العملية الثورية)، فإن ما يحدث في مصر (وأي مكان آخر) سيستغرق وقتا طويلا حتى ينفض. ليس بالإمكان تفكيك قواعد ومؤسسات النظام السياسي وإقامة أخرى جديدة بين ليلة وضحاها. ولو حاول البعض ذلك، فإن الجموع الغفيرة التي احتشدت في خضم العملية، لن تسمح لهم بذلك، لاسيما وأن القوانين الجديدة تفضل بعض الجماعات على غيرها. وما ينتج بالطبع هو نزاع ممتد على السلطة تكون حصيلته مرتهنة بشروط غالبا. ثانيا، تستطيع القوى الخارجية التأثير على هذه العملية، لكنها تعجز عن التنبؤ بسير الأحداث. في الواقع، كلما ازداد حجم التدخل الخارجي، زاد احتمال أن يسفر ذلك عن نتائج عكسية. في الثورات الفرنسية والروسية والإيرانية مثلا، أسهم التدخل الأجنبي في راديكالية الثورة، ما أتاح للمتطرفين استخدام القومية والتهديدات الخارجية ذريعة لسحق القوى المعتدلة، الأمر الذي أفضى إلى نتيجة كانت القوى الخارجية تعارضها تماما. وهذا يحتم على الأجانب (ومنها الولاياتالمتحدة) أن تظهر صبرا هائلا ونهجا رشيقا للغاية عند التعامل مع هذه الأوضاع المضطربة. ثالثا، تنضوي الثورات على تصاعد التنافس الأمني وازدياد مخاطر الحرب. ويحدث ذلك، بمساعدة عوامل أخرى، من خلال: انقلاب موازين القوى ونشوء المخاوف من حدوث عدوى واشتداد دوامات الشك وجلب نخب غير مؤهلة إلى السلطة وانفتاح أبواب الفرص. إن الثورات لا تستوجب الحرب بالضرورة ولكنها تجعلها أقرب إلى الوقوع. ولعل البعض يرى أننا نخوض الآن المراحل الأولى لعملية من هذا النوع، بوجود حرب فرعية في سوريا وصراع متواصل في غزة وخصام سياسي لا يزال قائما في مصر واليمن وليبيا وبقاع أخرى متعددة. حين تجتمع هذه العوامل سويا، لا يسع المرء سوى أن يأمل بأن تكون مفاتيح السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط في أيدي أشخاص أذكياء ويقظين ومتزنين، والأهم من هذا كله، واقعيين.