خبر، أو نحن 5 تنبّهنا على الألوانِ تنفجرُ تصدّع الليل ثم هوى تبعثرت الشظايا على مطلع الفجر نثرها انفجار الضوء الظلام المخضّب لم يجمع فلوله وحين اجتاحَه الصبحُ كان ركاما في الزوايا حلَّ النهار ولم يبرحْ مكانه أحاطت الأيامُ بليلة عاجزة عن الهرب أمعن الواقعُ فينا حتى تمادى واجتاحَتِ البلدَ جيوشُ الكَرَبِ الجريمةُ دولةٌ مذ القتلُ سادَ حتى المتاح يستباح ففي السياسة لا لزوم لغير الكذبِ من سبب ضاق المجال ما بين الخيانة والشهادة وغدا الفضاءُ مضيقا أو بدا يوَسِّعُه الكلامُ والتبرير بلا هوادة الفراغُ سحيقٌ يصلح للسقوطِ الفراغُ يحتضنُ الرُّهابَ وهو يوسِعُ الحقَّ حيادا ما عدنا إلى الأوهامِ فقد كبرنا ولكنّا عثرنا، رغم قمع الكبرياء، عثرنا على بعض الكرامة أيها السادة وتفاجأ الذلُّ ببعض الصدِّ فينا مرحى، نحن أحياءٌ وللجرح إيلامٌ بعضُ الرفضِ عادَ زمنُ الاستغاثة بالبثّ المباشر ينعشُ الثأرَ القديمَ يجدّد حسابنا المفتوحَ ما قبل الرواية والحظوظ العاثرة ويلقي بالحسابات الصغيرة جانبًا يثير نقمتنا على المعقولِ يحيي ضغائنَ ضدّ الواقعيةِ أوقعت بنا، أوقعت ما بيننا حسبنا المفترضَ يفترضُ، فما لبث أن فُرِضَ علينا المُفتَعَلُ يُفتَعَلُ، وفي غيابِ الفعلِ ولَّد فاعليّة وربما الفعليُّ يفرضُ ذاتَه فعلا فأحيانا يصحُّ الصحيحُ كما الساعة المعطوبة تشير عقاربُها بدقّة كلَّ يوم مرّتين فتسمح بالتفاؤل الوهميّ مرّتين تسمّرنا كلٌّ على بركانه تأجَّلَ كلُّ شيءٍ، تأجَّلت أشياؤُنا، تأجَّلنا وصفع الواقعُ واقعيّتنا من الجحر نفسِه يُلدَغُ المؤمنُ مرةً واحدة هي المرةُ قبل الأخيرة ليس الياسمينُ مكتوبا على الجدران فهي تعجّ بالملصقات والشهداءِ والموتِ حتى الشعارات ترنو لتبديل الثياب من حين لآخر عافت الأحمرَ والأسودَ ولكني تعلّمتُ بالتجربة أن الجروحَ لا تزهرُ ربما تُطلِقُ شِعرًا، ربما، لكنّها لا تُطلِقُ فلاّ ولا يمكنُ كسبُ كلِّ العوالمِ ورغم ذلك أسْتَرِقُ المعاني وأبحث خلسة عما يداوي فراغا ويملأُه بأكثرَ من رفضٍ فلا أجدُ نصفي طافحٌ بالغضبِ وفراغٌ يفغرُ فاه في نفسي ونصفي الآخرُ من أسئلة هل نتحرّر كيما نحرِّرَ؟ أليس التحرّر هدفا؟ أنجعلهُ أداةً ونخسر العالمَيْن؟ حسُّ الكرامةِ صِنْوُ التَّوْقِ للعدلِ لا يتوق لرفعِ الظلمِ من لا يحس بنقص في غيابِ الكرامة أأبقى قابعا في مكان الجريمة؟ أشهادة زورٍ هذه أم صمودُ؟ أأبتعدُ؟ شكوى المُلوّنِ لم ينشب خلافٌ على التاريخ واللاهوت. ولا تخاصمْنا على معنى الحياةِ. استعانوا على النهار بالسحبِ. انسلّوا إلى العتمة تحت جنح العتمة.لم يتآمروا مع الريح ، بل صنعوا أشرعة وحوّلوا مجرى الزمان ليحتلّوا المكان. أوقعوا بين الصحراء والكثبان، وبين الجبل والبحر. وتسلّلوا بين أعيننا، تحت أعين الشمس. لم يخطر لنا أن الحقَّ يعني حقَّ تمَلُّكِ الأشياءِ.لم يمرَّ ببالنا أن البلادَ مُلْكٌ لنا، أو أنّنا المالكونَ كنّا نعبدُ ربَّنا، والحقُّ من أسمائِه. ننشِدُ حين نزرعُ أرضَنا. صوت المطر يطربنا. وفي الحِدادِ نندبُ. نغنّي وننتحبُ. نعِدُّ شرابا للولادة. نستبشر ببروز أوّل أسنانِ الوليدِ، فنغلي شرابا. ونعدُّ آخر للخطوبة والزفاف، وشرابا للوَفَيَاتِ. وكما عند الأنامِ كذلك عندنا تتنوّع الحلوى، تدورُ مع المواسم، ويُنشَدُ للحصادِ. وحاجتنا جهِلْناها فكيف ندركُ فقرَنا؟ كنا حين نبردُ نلتقيه. يحيّينا فنرتعدُ. وكان الفقرُ حين نجوع يخجلُ. لا ينظر في عيون أطفالنا. يراوح حولنا، ليس يبقى، ولا يبتعدُ. وإذا ذبل قبل التفتّح طفلٌ تقبل الفقرُ معَنا التعازي. كنا نحدُّ، ولا نفقه لوفاتِه سببا. والفقر كان من أهل الفقيد. إنّه منّا وفينا. لم يخطر لنا تبريرنا. لكلِّ حفلِ زفافٍ كان يُدعَى كلُّ من يتحرَّكُ. أجدادُنا يأتون، وجميعُ من فُقدوا. تُوَجَّهُ الدعوةُ للحاضرين. والغائبون لبَّوا بلا دعوة. لم نستصدِرْ تصاريحَ زيارة. للعلاقة مع ربّنا لم نصدر كواشينَ.لم نسجِّل أبناءنا في الدوائر. ولم نقيِّدِ الزيتَ والزيتون. لم نكتب بهم قيدا. علّمونا في طقس العبورِ إلى البلوغِ أنّ التاريخَ حيلةٌ، والدينَ براهينُ. والحقَّ وسيلةٌ. فلم نفهمِ الدرسَ المبكِّرَ.لم نستوعبِ العِبرَ. انسلّوا أثناءَ تأدية الشعائر قبل اختتام الطقسِ. أحصَوا كم فنجان قهوة شربوا. ووثّقوا كلَّ تحية وتداولوا عند التئام المجلس. واقترعوا علينا بالأغلبيّة. هذي المهارات هيهات نتقنها. أفَقْنا خارج البلد. نهضنا نتعثّر بأطرافنا الخدِرَة. وتدافعنا خارجين من المواسم للسياسة. تزاحمنا خروجا من تفاصيل الحياة إلى القضيّة. كنّا بالصناعة معجَبين. زجّ بنا السجالُ والأحوالُ في صناعاتِ الهويّةِ والقضيّةِ. وكنا نَنْشُدُ الإنشاءَ والعمرانَ، فتحوّلْنا لكتابة الإنشاء. انتقلنا من العفويّة للصياغة ومنها للصياغات. وتناقشنا على النقطة والفاصلة. ولم ينته الخصامُ بالحذف والإضافة. مِن تَلمُّسِ حكمةٍ في الشرعِ أودى السجالُ بنا حُكْمًا إلى الشرعة الدوليّة. عَبَرْنا من الإنشاد للمناشدةِ. تجاوزنا شقاء الحرث والزرع إلى بذر الشقاق. تجاوزنا البرتقال والياسمين إلى حلّ الخلافات. لم نخرج لغزوٍ، ما خرجنا للحصار. لم نخرج لكي نستردَّ عاشقة لمليكها. يخلص عندنا الأزواج والعشاقُّ. ويدفع الأزواج أحيانا ثمن الإخلاصِ للعشقِ. والعقود تسمّي الإخلاصَ هذا خيانة. لكن الضيف في تاريخنا لا يخطف زوجة مضيفه. لم يوحِّدْنا المنادي للنزال. ولا تفرّقنا بعد انتصار. غربتنا لم تكن غربة أوزيس. ولم نبحر كيما نعود من البحر. خرجنا إلينا. وفينا اغتربنا وافترقنا. وفتح التشتّت أذرع الترحاب. ليته كان شتاتا. كان حصان طروادة منا وفينا. ولساننا حصاننا كما تقول أمثالنا. لكن لا نحن صنّاه، ولا هو صاننا. طال الغيابُ بما يكفي لكي يُستنطَقَ الأملُ. يُعصَرُ منه الكلامُ حتى الثرثرة. التقينا مع عذابات الآخرين. بعضهم نجحوا. حتى أشلاؤهم نجحت. ونحن، غدا صمودنا رمزا، وجعلناه انتصارا. وأشغلتنا الأمزجة. تعب الأدب المدلّلُ والمستفيد من القضيّة. والشعر صنع من نفسه أسطورة. واستنتج الياسَمينُ النتائج. و"زعلت" القصّة لم تلقَ المعاملةَ اللائقة. ووجد التمدّن ذاته في لقاءات الحوار. وحين استسلم الشعرُ لإعجاب السارقين به استقال. والبرتقال صار بذاته يتمتعُّ. طلب الصبر القيادة وقام يفتي ويأمرُ. وكان الغزاة ضربوا حصارًا على من بقوا فوق التراب. وأغلقوا ما تبقّى من مكان في المكان.سيّجوا ما تشبّث من البحر بالساحل. حاصروا من نجا من حربهم. ومن نجا بكامل عقله من سلمهم. (لا غرقَ فيه ولا عامَ على شبر ماء ولا أبى طرحَ التحيّةِ غاضبا متجهّما متجنّبا ذكرَ السلام). نعلم أنّ للسطوَ دولةً وللغدر أصلا دولَ الطوائفِ، وللعدم المماليك والغلمان، وكتبة السلطان والوزراء والحريم والخصيان، والرؤساء وقادة الجند. الأمسُ فلولُ أمرٍ وكرٌّ وفرّ. واليوم خمر، واليوم دهر. والتسويات التهمت ما تبقّى. لم تترك سوى الصبر.لم يبق سوانا. لم ندّعِ تمثيلَ ملّة. ونستغرب من صراع الحضارات. تعبس السحنات لذكر حوار الديانات. وتأخذه بجدية. فنتساءلُ عمّن يتكلمون - هل عنّا يدور الحديث؟ - ليس مهمّا، المهمُّ أنك مدعوٌّ للكلام لم نزعم على الغزاة تفوّقًا، ولا أننا الخيّرون. نحن سكان المواسم والبلاد. كنّا أصحابَ الأفقِ ملكنا الفضاءَ الرحبَ. صرنا أصحابَ الحقِّ أبناءَ أصحابِ البلادِ اللاجئين. شتاتنا متساوي الأضلاعِ والخيباتِ. نستجيرُ من الرحيلِ بالازدحامِ، ومن المحيط بذاته. كنا نقاوم الزمانَ والنسيانَ، والسطوَ المسلّحَ. صرنا نغالب الاعتراف بالسطو. وفي هذه الأثناءِ، بعد أن باعه الشعر للأعداء تماسك الصبّار بثمن الشوك والانطواءِ. وحدَه الصبّارُ يصمد في هذه الصحراءِ. انقلبَ الصمودُ انكفاءً في الجفافِ. ولّت رومانسيّة الثوّارِ. تبخّرت أحلامُ اقتحامِ السماوات. وما دامتِ الألوانُ ضدَّ إنصافنا. فلتمتصَّها ثقوبُ الزمان. سيكون الموقفُ في الرمادي. تمترسنا خلف القتامة. وانسحبت الألوان ثم تمترست في الأحلام والفنّ. نقاوم بما رسب في قعرِ الحصارِ. بعد الإقامة فيه طويلا. لا يكترث التعدد إلا لذاته في الحقيقة. فتعدّد الألوان حصريّ إذ ليس لتعدّدِ الألوان من آخرينَ. يعلنُ التعدّدُ فضيلةَ حبِّ الذاتِ. ويتبادل مع ذاته المجاملات. وتعرضُ الألوانُ ذاتَها في الغبطةِ. وللإثارةِ تحطِّمُ سأًمَا أوِ اثنين على المنصة. وتعرضُ كلَّ شيء تعرض حتى المعاناة. ها هي قد تعبت وملّت. واستُنزِفَ أيضا خفيفُ الظلِّ. تعب الذي ناضل مقبلا على الدنيا. وتعب الذي اعتبر الإقبال عليها نضالا. أشهرت الألوانُ إعياءها. وراج أنّ النضال عبثٌ، وأن الحقّ عدمٌ. وفجأة ظهر الرمادي. صمد إذ كان معتكفا. أمضى حياةً في الخنادق. وانطلقَ في زمن الأفول. تساءل عن تعب الألوان من الوقوف وهي جالسة. وعن ترويجها للقعود وهي قاعدة. قالت الألوان: تَعَبُنا الآن منك. فشلنا، وفشل القيامُ. وصحّةُ الجلوسِ أثبتها الزمانُ.نخشى من انعدام اللون فيك. ونخشى على أبنائنا منّا ومنك. وربما نغارُ. بئس الوقتُ هذا. تأكلُ الزهوَ غيرةٌ من الباهتِ. ألواننا فشلت. وصارت تسحرُ أبناءَنا نسختُنا الرمادية؟ غزة، أو نحن 6 تَرى القاذفاتُ، ولا تُرى. تُسمَع أسرابها، لكنها لا تَسمَع. بيّنا للوفود مرّات، وعدنا وأكّدنا للّجان ألفَ مرة، أنّا لم نقابل الفاعلين. لم نر من الطيّارين أحدا. ليس بوسعنا وصفهم شخصيا. لكننا نعرف القاتلَ المتسلسلَ. ربما كان محض مجاز، أو منزوع الوجه والملامح. ولكن أحدًا أشعلَ السماءَ. فهذا ما جرى. أهو إنس يا تُرى؟ جلُّ ما نعرفُ أنّه عادةً يتلبّدُ السوادُ. تلبَّد البياضُ هذه المرّةَ. أطفأَ الوميضُ الفضاءَ. ولمع ثم خبا الأفقُ، كما يبرقُ مصباحٌ ثم يحترقُ. فما أدرانا؟ ربما تنافسَ شبّانٌ في لعبةِ الأزرارِ بالتصويب. أهدافٌ ساكنةٌ، وأخرى تتحرَّكُ. صوّبوا من طلوعِ الشمسِ إلى المَغيبِ. والحاسوبُ لا يخطئُ. فيه، باللغة السقيمة، "بنكُ أهداف". وحدَه لا يفلسُ. على الشاشة يخفُقُ الهدفُ كأنّه يتفكّكُ... - ما أدرانا وقعت إذًا أم لم تقع؟ فحرب الخليج لم تقع - من قال؟ - قال بودريلار. - ربما كي يخدع الجنَّ، مثلما لا يُذكَرُ المرضُ الخبيث، يا ستَّار. - لا، بل يقول لم يرَوا حربا عدا تلك التي بُثّت. - أتقصد أنّ ما وقع علينا لم يقع لنا. - ربما. ربما لم تقع الحرب. - ربما، ولكن وقع الكثير يا حمار. أصيب مثلا إبريق الشاي والكؤوس. وتناثر فراشٌ للجلوس. وتطايرت بيوت الفقراء. ووقفت الجدران عارية. وأصيبَ الازدحامُ في الغرف الصغيرة. وأُصيبَ المتعانقون، وأكياسُ الطحين وعلَبُ الحليب وزيتُ الوكالة. وكراسيُّ عتيقةٌ، وحقائبُ مدرسيّة. وقعت بنايةٌ سكنيّة. وأخرى كأنها لم تكن. خلَّفت بنتا وحيدة. كانت تزور جدتها. (ورد على لسان الناس. وقعت البناية أي سقطت. والحرب وقعت أي قامت والدليل أن قيام الحرب يعني سقوط العمارات). أقيمت طقوس القنص. وطُوِّقَت المجزرة بالجدار العازل. نجا منها الدّخانُ. وبعض الصرخاتِ ونجا الذين نجَوا. وأفلتت من الحصارِ رائحة. أنتشرت في الهواء كما في خليج حيفا باكرا. تعفّنتِ المعادن أو سوائل التنظيف والكبريت. أذكرُ تلك الرائحة، عملتُ قبل دهر هناك. تمتزج هنا برائحة الحروقِ والدواء. ويضافُ إليها جفافٌ في الحلقِ يمتدّ للعينين، ويغدو حارقا. وجمد الهواء في الرئتين. وساد الوجومُ ثقيلا. (صباحُ الخير يا أرضَ الكنانةَ هذا صباحُ الكيمياءِ. نعتذرُ قبل الانتقادِ ونستأذنُ قبل توجيه التحيّة. نصدِرُ صوتَ نحنحةٍ وهمهمة، كما يليق بالضيوف والغرباءِ. نصدِّرُ السلامَ بديباجة كي لا يُساءَ فهمُ التحيّة. أفقتُ اليومَ على أزيزِ الرائحة، على قدْرِ المحبّة يكبرُ العتبُ. ديباجةٌ قيلت أمسِ في المساءِ. وكرّرنا اللازمةَ قبل وبعد نقدِنا البوابةَ الصمّاء. وختمنا بأنّ "اللوم له حجم الأمل". كلّ هذا كي نفصلَ النقدَ عن الهجاءِ. فصلنا بين البلد والسياسة. فلماذا نعتذر عن النقد بهذه الكياسة؟ أرى ما أرى ولن أعتذرَ. كنت في ذاك الصباح بلدُ المومياءِ. كنتِ ما كنت قبل أن تصحي ويوقظك شبابك). في طريق العودة تناكفوا عبر أجهزة الصوت. تبارَوا بالظرف والنكات والتعليقات الشقيّة. "خيرة شبابهم" كما يزعمون، "الجيّدون للطيران" في عرفهم. يعودون إلى القواعد سالمينَ. هذه المجرياتُ جرت أوّلا. وفي العالم الآخر جرى ثانيا: ملّ طيّارٌ من الجلوس. استيقظ ضميرُه وخرج علينا. وتمخّضت الصحوة عن فيلم. يحكي عن ذاته، وعن معاناته. تألَّم الرجلُ كما يبدو بصدق حين نفّذ الأوامرَ. كان فردا يقصف جمهورًا. بقي بعد الحرب فردا حتى وهو نادم. كنّا له جمهورَ الضحايا. بقينا له جمهور المشاهدين. متعة القصف تمّت. تلِحُّ الآن عليه متعةُ الألمِ. جرت هذه المجرياتُ قبلما تنبّه القنّاصُ بعد الغارةِ. أنّ سوقَ العرضِ والطلبِ يحتفي بألوانِ الهوياتِ. صحيحٌ أنّه الفاعلُ، لكنْ يصحُّ أنه ضحيّةُ الفِعلةِ. فقرر أن يربح العالمين، قتلَ الآخرِين ومعاناةَ الذاتِ. والأخيرة تعرَضُ، تُستعرَضُ. ولها المهرجانُ والحوارُ والمعرضُ. أما لؤيّ وأمّه، ودلالُ ابنةُ العمّ وسلوى ومحمد، وفاطمة التي بتِرَت رجلُها، والأستاذُ معلّم المدرسة، الذي خجلَ أن يحملَه التلامذةُ ومات مُفَضِّلا على الحَرَجِ النزفَ، وأمّ عليّ التي ثكلت كلَّ شيء، وسائقُ الإسعاف الذي لم يجد من يسعفه، فقد غارت ملامحهم في السرد. فهو يُروى من مقصورة الطائرة. غابت وجوههم من المشهد الذي يرُى بعين الكاميرا. يجدر بالضحيّةِ نيلُ التعاطفِ منها. يجدر بها أن تفسّر ذاتها، أن تردّ التُّهَمَ. والإجهاشُ بالبكاءِ أبلغُ طريقة. وأن تعبّر عن إعجابها بأقطار تنتج الطائرات والعدسات، وبمعاناة طيّاريه من وخز الضمائر، وأن تعبر عن سعادتها بحرية التعبير. وقمة الإنجازِ أن يُعرَضَ الشاهدُ حيّا في الندوة . فريسةً للتعاطفِ والسجالِ والحوارِ. أضحيّة الغزو هو، أم ضحيّة المقاومة؟ ضحيّة القصف، أم ضَحيَّةُ الوجود في طريقِه؟ هل الفاعل الحصارُ أم الفاعل الحياةُ في ظلِّ الحصار؟ - يكفي، كفى ثرثرة! - مهلا! سوف أحلّ المسألة جرى له ما جرى، لكنه اليوم ضحيّةُ هذا الحوار لم يُؤْذَن لأحد بالهروب. الهروب جنحةٌ والبقاء جناية. والعقابُ تتكّفَلُ به الطائراتُ. فبموجبِ دليلِ المقاتلِ لطهارةِ السلاحِ. ما عدا الهربَ والبقاء كلُّ شيء مباحٌ. أعدّ الدليل مثقّف، أستاذ فلسفة. يحمله الجنود في جيوبهم. وفي أسفل الغلاف رقم هاتفٍ للطوارئ (لحالات القلق الشخصيّ من غياب الوازع، ولعلاج الدهشة من تردّد التردّد والانزعاج من سعادة عفويّة عندَ ارتكابه جريمة تغمر الجنديَّ، أو لغرض التشاور: كيف يمكنُ إخفاءُ لذّة القتلِ؟ كيف يجري تحويلُها مثلا إلى تنفيذٍ للأوامر، والجندي إلى مسكين ينفذ الأوامر. المأمور يلبي بلا وجه بلا تعبير. ولا بأس بتأنيب ضمير، لكن كلّ شيء باعتدال) اغتيلَ لونُ المكانِ بالرماد. وغمر الدخانُ الأصيلَ. وغصَّ مجرى الزمانِ، فلا لُفِظَ الذهولُ ولا ابتُلِعَ. ورسموا شارةَ النصر بإصبعين المهمّة أنجزت، فقد أردَوا الطفولة... عند الباب تجمّع الأحياء. تدافعوا عند غرفة الموتى بعيونٍ مشرئبّة. تزاحم الفضول على مدخل المشفى. حبُّ الاستطلاعِ يقظٌ طيلةَ اليوم. يمدّون يد العون، ويلقون نظرة بالمناسبة. تداوِمُ عند الباب جمهرة. ولوحظت بالكاد مازوخية خفيّة. تسترق النظرَ إلى الجروح فضولا تبحث عن صدمة العمر. وعن أفظع منظر. بعد جمع الأشلاءِ وإحصاء الموتى. انتشرَ الناطقون في وسائلِ الإعلام. هم أيضا نفَّذوا الأوامرَ. اتهموا الناس. بالاختباء في البيوت. وبمحاولة الجري للهرب. استهجنوا استخدامَ البيوت للمبيت. وأدانوا طلبَ الحنان في أحضان الأمّهات. الفصل شتاء. والجوّ ربيعيّ. عادة يحضِرُ الأهلُ أبناءهم. اليومَ جاء الأبناء بالأهلِ، إذ فتحت المدرسة أبوابها للاختباء. وكان في ذاك الصباح صبيّ. ارتدى أربع كنزات قبل الذهاب إلى المدرسة. اختلط عليه الخوفُ والبردُ. وأكّد الأطباء بعد معاينة الجسدِ، أن أربع كنزات محاكة بكلّ حنان لا تقي من الرصاص. كَبُر الصِّبْيةُ يومَها دهرا إذ تعلّم الأترابُ، أنّ دفء الأمّهات لا يوفّر عن الأمن بديلا. أمهاتهم أنجبنهم أطفالا. لم يشبعن بعدُ من ضمّهم، من الضحك والبكاء. من السخونة والزكام، والاستيقاظ ليلا والتلعثمِ والتأتأة، والشتائم المفاجئة، والتباهي بالطيشِ وبآخر المآثر، لم يكتفين بعدُ من همّهم. لا يُرِدْنَ الآن أبطالا. لكن كعادتهم، بكَّر الغزاة عليهم قليلا. أيها الغزاة. حين ترحلون اذكروا أن تأخذوا معكم بطولات صبيتنا، لا نريدهم أبطالا، نريدهم أطفالا!! بين الأنقاض امرأةٌ مشدوهة. تدور حول ذاتها وسط الرُّكام. تبحث عن بقايا. في يدها وعاءٌ محروق. لا تدري لماذا حملته. متى تمحو أيها الزمن صورَ الشبابِ عن الخرابِ. أحقّا سمحت لمشهد الشيوخ والخيام بالإيابِ؟ حتى آلةُ التصوير عافت لقطةَ العجوزِ المُطرِقَة. حتى الزمانُ سئم نظرةَ الفلسطينيّ في الفراغِ. ------------------------------------------------------ ينشر هنا لأول مرة نص أدبي كتبه الدكتور عزمي بشارة بعد الحرب على غزة عام 2008\2009 ولم ينشره. وقد أصبح هذا النص جزءًا من كتاب أوسع كتبه عام 2009 وأجّل نشره بسبب بدء الثورات العربية عام 2010. وسوف ننشر النص على حلقات في الأيام الثلاثة القادمة . (اضيفت الى هذا النص جملة واحدة فقط.)