ستظل سيناء فيما يبدو ملفاً ملحاً يواجه النظام المصري الجديد؛ ليس فقط لما تواجهه شبه الجزيرة من تحديات تتعلق بالتنمية ووأوضاعه الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، ولكن لارتباطها بكلمات مفتاحية شديدة الحساسية في المنظور الجيوسياسي والجيوستراتيجي: غزة، كامب ديفيد، واسرائيل. بدأ الجيش المصري في السابع من أغسطس/أب عملية أمنية هي الأكبر في سيناء منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، كرد فعل للهجوم الارهابي على وحدة الماسورة العسكرية المصرية وأسفر عن وفاة 16 فرداً من قوات حرس الحدود المصرية. استهدفت الحملة كذلك انهاء حالة الانفلات الأمني التي تفاقمت بعد الثورة، (أُعلن حتّى تاريخ 22 يوليو/تموز 2012 تفجير خطّ أنابيب الغاز خمس عشرة مرّةً دون التمكن من ضبط الفاعلين). وعلى الرغم من أن العملية لم تتسبب في إغلاق معبر رفح سوى في أيامها الأولى فقط، إلا أنها شملت خططاً لتدمير الأنفاق بين سيناءوغزة. حيث أعلن الجيش المصري رسمياً مطلع أكتوبر الجاري تدمير 135 نفقاً منذ بدء العملية في أغسطس الماضي، وأكد عزمه استمرار تدمير الأنفاق دون أن يعني هذا تخليه عن الشعب الفلسطيني. سيناءوغزة: جغرافيا صنعت التاريخ والديموغرافيا تمثل سيناء حوالي 6% من مساحة مصر، ولا يتجاوز عدد سكانها ستمائة ألف نسمة. هذا (الفراغ) الكبير الممتد بامتداد صحراء سيناء وجبالها وسواحلها، واكب (غياب) للدولة بسبب فترة طويلة من الحروب أعقبتها فروض الملاحق الأمنية لاتفاقية السلام مع اسرائيل. كان لابد في المقابل أن تزدهر جماعات أخرى قادرة على ملئ هذا الفراغ سواء من منطلق دور عشائري أو لأهداف أيديولوجية وعقائدية. عزز هذا النفوذ العشائري والعقائدي في سيناء من الروابط السيناوية الغزاوية؛ فمنطقة شمال سيناء تاريخيًّا كانت على اتصال بمدينة غزة بوصفها مركزًا حضريًّا تقليديًّا جاذباً للتجارة. بالإضافة لذلك فإن (كل الجيران أقارب) كما يقرر جمال حمدان، الذي يعتبر أن العلاقة بين سيناءوغزة بمثابة العلاقة بين الزر والعروة التي تلحم البعدين الأفريقي والآسيوي للوطن العربي. يربط أهل سيناءبغزة علاقات متشابكة، تتنوع بين التعاطف والشعور بالانتماء للقضية الفلسطينة، والصلات التجارية التاريخية، بالاضافة إلى الصلات العشائرية والقبلية بين الجانبين؛ فالقبائل الرئيسية في سيناء (السماعنة والسواركة والتياها والترابين..الخ) هي في الأصل قبائل عربية موزعة بين الشام ومصر، كما أن هذه العلاقات ترسخت في فترة الإدارة المصرية لقطاع غزة، بل إنّ العدوان الإسرائيليّ على غزة في 2006، كان يمسّ مباشرةً عائلات سيناويّة لها أقارب في الشطر الفلسطينيّ من مدينة رفح، ومنهم من استشهد أقارب له في هذا العدوان أو في الاعتداءات السابقة. وفي الوقت الذي أحكم العالم فيه الحصار على قطاع غزة، مثلت سيناء شريان الحياة ربما الوحيد لأهالي القطاع؛ فغزة تعتمد بشكل رئيسي على الأنفاق في توفير السلع والبضائع الأساسية بما يعادل 1.3 مليار جنيه سنويا حسب د. موسى أبومرزوق الرجل الثاني في حماس، كما تستفيد حكومة غزة بحوالي 5 مليون دولار سنوياً توجهها للأنفاق على الخدمات في القطاع. ولا شك أن الصلات العشائرية والعائلية، بالاضافة إلى البعد الإنساني والأخلاقي، والاستفادة الاقتصادية لبدو سيناء – لا تقل ظروفهم بالمناسبة عن معاناة الغزاويين- الناتج عن عوائد توفير ونقل البضائع من سيناء إلى غزة، لا شك أن كل هذه العوامل مجتمعة لعبت دوراً في استمرار ونجاح الاعتماد على الأنفاق في كسر حدة الحصار المفروض على القطاع منذ 2007 حتى الآن. غزة في انتظار الربيع العربي ليس من الواضح حتى الآن رؤية النظام المصري الجديد المتعلقة بإدارة ملف العلاقة مع غزة، ومع حركة حماس؛ صحيح أن الرئيس المصري استقبل اسماعيل هنية، وأن قادة الحركة أصبح مرحباً بهم في القاهرة، إلا أنه لم تتخذ اجراءات تمس المعضلات الحقيقية المرتبطة بالقضية الفلسطينية عموما وغزة خصوصاً، سواء على المستوى السياسي أو الانساني، باستثناء تسهيلات ملموسة لحركة عبور الأفراد من معبر رفح. ربما التقدم الوحيد هو زيادة التنسيق الأمني بين الجانب المصري وحكومة حماس في غزة في أعقاب الهجوم على وحدة الماسورة الحدودية، لكنه يظل ضمن نفس الرؤية السائدة تجاه غزة وحماس: الرؤية الأمنية تحديداً. ما زال الوجه الإنساني مغيباً أثناء تناول ملف غزة، مقابل الهاجس الأمني الذي يظل مهيمناً على الرؤية المصرية بصورة لافتة؛ فقطاع غزة يعيش فيه 1.6 مليون فلسطيني (يتوقع تقرير الأممالمتحدة أن يصل تعداد سكان القطاع بحلول عام 2020 إلى 2.1 مليون فلسطيني). وعلى الرغم من ارتفاع نصيب الفرد من الناتج المحلي بنسبة 19%، وزيادة الناتج المحلي الإجمالي 23%، إلا أن اقتصاد غزة الحضري يقوم بشكل أساسي على التجارة، ما يعني أن استمرار الحصار يقضي على أي معنى لخطط استعادة الاقتصاد عافيته وتجاوز المشكلات المزمنة التي يعاني منها القطاع (30% بطالة – 44% من الأسر تعاني من انعدام الأمن الغذائي – مشكلة الكهرباء - الحاجة الفورية لبناء 71000 وحدة سكنية و 250 مدرسة، وضرورة زيادة 800 سرير بالمستشفيات حتى عام 2020). جدير بالذكر أن الحصار أدى إلى خسارة معدل النمو ما يقرب من 2 مليار دولار عام 2010. بالإضافة إلى الآثار المباشرة لعملية الرصاص المصبوب، التي دمرت فيها قوات الاحتلال الاسرائلي 6268 منزل، وتسببت في خسائر قدرت ب 25 مليون دولار خاصة بالقطاع الجامعي، وقتل 357590 من الماشية والطيور، وخسر القطاع الزراعي ما يعادل 181 مليون دولار بالاضافة إلى 50 مليون دولار خسائر قطاع البيئة والمياة والصرف الصحي. من حق مصر أن تفرض سيطرتها الأمنية على كامل ترابها، بما يحفظ سيادتها ويحقق أمنها القومي، بما في ذلك انهاء وضع الأنفاق كمسار استثنائي غير منضبط، ولكن في المقابل على الجانب المصري واجب أخلاقي وعروبي وإسلامي تجاه هذه الأوضاع تجعل مشروع المنطقة الحرة بين مصر وغزة ضرورة إنسانية، وتتطلب تعديل وضع المعبر كمنفذ للأفراد والبضائع برقابة مصرية فلسطينية – وربما عربية أيضاً- قبل أن نصل إلى النتيجة التي تنبأ بها تقرير الأممالمتحدة المشار إليه سابقاً ووضعها كعنوان له، وهي أن ( غزة لن تكون مكاناً صالحاً للحياة بحلول عام 2020). المستقبل: تحديات الاقتصاد والإنقسام يذهب الكاتب الفرنسي ألان غريش (Alain Gresh) في مقدمة كتابه الجديد المعنون ب علامَ يطلق اسم فلسطين؟ (De quoi la Palestine est-elle le nom?) أنه يتحتّم على أيّ حكومة في القاهرة أن تضع الرّأيَ العامّ المصريّ في اعتبارها، ولو جزئيًّا. ولن يستطيع أيّ رئيسٍ قادم الخضوع لإسرائيل والولايات المتّحدة، مثلما خضع لهما مبارك. ولا يساور الشّكُّ أحدًا في أنّ فلسطين ستكون في قلب تلك الأوضاع الجديدة وتلك التساؤلات التي يشهدها العالم العربي؛ وذلك بفضل ما بلغتْه من موقعٍ يضعها في قلب التّعبئة العالميّة المناهضة لنظامٍ دوليٍّ جائرٍ. قد يكون ذلك صحيحاً غير أن هناك العديد من التحديات التي تواجه الرئيس المصري، أهمها: 1. الحذر من اتخاذ خطوات تعرض مصر لضغوط الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوربي في الوقت الذي يسعى فيه الاقتصاد المصري لاستعادة عافيته، معتمداً بصورة لافتة على خطط مساعدات خارجية، وجهود تستهدف جذب استثمارات أجنبية، باعتبار ذلك ضرورة ملحة تفرضها الأزمة الاقتصادية الحالية. 2. لا يبدو النظام الحاكم في مصر راغباً في اتخاذ خطوات تضطره للجلوس مع الجانب الاسرائيلي، أو التنسيق معه بسبب موقفه المعروف تجاه اسرائيل، وبالاضافة إلى تداعيات ذلك داخلياً على شعبية حزب الحرية والعدالة. 3. يحاول الرئيس المصري الموازنة بين مسؤولية مصر تجاه قطاع غزة والقضية الفلسطينية من ناحية، وبين العلاقة مع حركة حماس من ناحية أخرى؛ خاصة وأن المعارضة الداخلية في مصر دأبت على استغلال أي تطور في علاقة مصر بقطاع غزة بعد الثورة باعتبارها علاقة بين جماعة الإخوان المصرية وبين حركة حماس لا تراعي اعتبارات الأمن القومي المصري، وتتجاهل تنوع الساحة الفلسطينية الداخلية. نخلص من ذلك أن القرار المصري مازال يخضع للعديد من التوازنات المعقدة، التي تقيده في الوقت الراهن، وأن مجرد توفر الرغبة ليس كافياً فيما يبدو لإنهاء حالة الاستعصاء في المشهد الفلسطيني، خاصة مع استمرار الانقسام الذي يوفر سبباً لإلقاء الكرة في ملعب الفلسطينيين أنفسهم ويرفع الحرج عن الأطراف الفاعلة! في ذات الوقت تتحمل الفصائل في غزة واجب توحيد قرار القطاع وتبني مطالبه ومشاكله بمسؤولية وطنية، حتى لا يتم الترويج لمشاكل القطاع وكأنه شأنٌ حمساوي لا يمس الشعب الفلسطيني وقضيته.