"إنه يوم أسود في أمريكا عندما ترفض أعلى محكمة في بلدنا أن تنظر في قضية تؤثر على قدرة كل واحد فينا في الحصول على محاكمة عادلة هنا". كان هذا هو رد فعل السيد خليل ميك، المدير التنفيذي لمؤسسة صندوق الإعانة القانونية الإسلامي في أمريكا-The Muslim Legal Fund of America (MFLA) – على قرار المحكمة العليا الأمريكية بعدم سماع الاستئناف المقدم من مؤسسة الأرض المقدسة للإغاثة والتنمية (هولي لاند فونديشين)، وخمسة من مسؤوليها وموظفيها. وأضاف ميك "إذا كان من المسموح للقضاة أن يمنعوا المتهمين من تحدي مصداقية 'الشهود الخبراء'، فإن التعديل الدستوري السادس يفقد قوته، كما أن حرياتنا المدنية ستعاني مزيدا من التراجع". للأسف، فقد رفضت المحكمة العليا يوم الاثنين (29/10) أن تنظر في الأخطاء القانونية والدستورية التي شابت محاكمة مؤسسة الأرض المقدسة والمتهمين الخمسة في القضية، مسدلة بذلك، إلى حد كبير، الستار على هذه القضية، ولكن مع بقاء الظلم الذي وقع فيها على المتهمين. وكانت مؤسسة الأرض المقدسة أكبر مؤسسة خيرية إسلامية أمريكية إلى حين إغلاقها بقرار تنفيذي من الرئيس السابق، جورج بوش، في الرابع من شهر ديسمبر 2001، أي بعد أسابيع من هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. حينها أكدت معلومات متواترة أن القرار جاء بعد طلب شخصي من رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أرئيل شارون، والذي كان قد التقى بوش قبلها بأيام. بالنسبة لشارون الذي كان حينها يواجه انتفاضة شعبية فلسطينية (انتفاضة الأقصى)، فإن هجمات سبتمبر وفرت له فرصة نادرة لزعم أن بلده تواجه ذات "الإرهاب" الذي تواجهه الولاياتالمتحدة، وبالتالي فقد سعى إلى أن يضاعف من عقوبة الشعب الفلسطيني المطالب بحقوقه المشروعة، وكان من ضمن مخططه لزيادة جرعة العقوبة أن يقطع الخدمات الإغاثية عن ذلك الشعب المنكوب. مؤسسة الأرض المقدسة، وكأكبر مؤسسة خيرية إسلامية أمريكية ومتخصصة بالدرجة الأولى في تقديم العون للمحتاجين من أبناء الشعب الفلسطيني، كما للمحتاجين في كل مكان، كانت دائما عرضة لسهام واستهداف اللوبي الصهيوني في هذه البلاد. ولكن التحريض المستمر على المؤسسة، والتحقيقات التي أجرتها الأجهزة الأمنية والرقابية الأمريكية المختلفة على مدى سنوات طويلة لم تقد إلى أي شبهة حول عمل المؤسسة وعملها الإغاثي الصرف في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، ولم تجد السلطات الأمريكية ذريعة واحدة لإغلاقها إلا بعد هجمات سبتمبر وبقرار تنفيذي رئاسي، لا قضائي. مؤسسة الأرض المقدسة والمتهمون الخمسة أخذوا قضيتهم إلى القضاء الأمريكي الذي رفض سماع القضية، ثمّ ما لبثت الحكومة نفسها أن قررت أن تأخذ المؤسسة والمتهمون الخمسة إلى القضاء عام 2004. ولكن وهن الأدلة التي قدمتها الحكومة في القضية أمام هيئة محلفين كبرى وتلاعبها فيها (أي الأدلة كما في الترجمات المقدمة مثلا)، قادت إلى حكم ليس فيه إدانة واحدة عام 2007، وذلك على الرغم من عشرات الملايين من الدولارات التي صرفتها الحكومة على هذه القضية حينها. المفاجئة كانت في أن القاضي أعلن بطلان المحاكمة وأمر بإجراء محاكمة أخرى أمام هيئة محلفين كبرى، وهو ما تم فعلا عام 2008. وهذه المرة، صدرت بالفعل أحكام بالتجريم والإدانة ضد المؤسسة والمسؤولين والموظفين الخمسة. المفاجئة الأخرى كانت، كما في المرة الأولى، في مسار إجراءات المحكمة. شهود الإدعاء، ضباط أمن إسرائيليون مجهولو الهوية وأدلة مصنفة على أنها سرية لا يطلع عليها المتهمون ولا الدفاع.. اعتراف من الحكومة بأنه لا يوجد دليل على أن المؤسسة قدمت أموالا لحركة حماس بشكل مباشر أو لأي من أنشطتها العسكرية، ولكن ومع ذلك زعمت الحكومة بأن الأعمال الخيرية للمؤسسة وتكفلها برعاية الأيتام والأرامل والفقراء في فلسطين، مكن حركة حماس من توجيه "مصادرها الأخرى" نحو العمل العسكري.. كما زعمت الحكومة بأن لجان الزكاة في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة والتي كانت تتعامل معها المؤسسة مرتبطة بحماس، وذلك على الرغم من أن وكالة المساعدات الأمريكية نفسها U.S. Aid أرسلت هي الأخرى أموالا عبر هذه اللجان، فضلا عن أن أيا من هذه اللجان لم يكن يوما على قائمة الإرهاب الأمريكية. دع عنك أيضا شهادة السيد إدوارد إبينغتون، والذي كان القنصل العام الأمريكي في القدس فضلا عن كونه الرجل الثاني في الاستخبارات التابعة للخارجية الأمريكية في فترة التسعينيات. السيد إبينغتون، أكد في المحاكمة أنه بحكم موقعه الاستخباراتي، كان يتلقى تقارير يومية من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)، وبأن الوكالة لم تذكر، ولو لمرة واحدة، أن لجان الزكاة هذه تخضع لنفوذ حماس أو أنها تحت سيطرتها. وقال بأنه لو كان ثمة شكوك حول هذا الأمر لكان أطلع عليها قطعا، وذلك بحكم عمله واتصالاته. رغم ذلك كله صدر حكم بالإدانة على المؤسسة والمتهمين الخمسة على أرضية "الدعم المادي"، وهي أرضية قانونية فضفاضة وغير واضحة المعالم، وازدادت غموضا بعد "قانون الوطنية" الذي سنه الكونغرس بعد هجمات سبتمبر. "الدعم المادي" بالنسبة للحكومة قد يشمل تقديم استشارية قانونية أو سياسية لأي شخص أو منظمة على قائمة الإرهاب الأمريكية، والغريب أنه حتى السعي لدى جهة ما مصنفة على أنها إرهابية لوقف أنشطتها "الإرهابية" قد يدخل في إطار "الدعم المادي" إذا ارتأت الحكومة ذلك!. وزادت المحكمة العليا الطين بلة في حكمها قبل أشهر عندما قالت بأن تحديد مفهوم "الدعم المادي" متروك للحكومة وعلى المتضرر أن يسعى للدفاع عن نفسه! موقف المحكمة العليا في قضية مؤسسة الأرض المقدسة جاء رغم مذكرات قانونية قدمت من قبل عشرات من المحامين وأساتذة القانون ومتخصصون مرموقون في الدستور الأمريكي والقانون الغربي بشكل عام حذروا فيها من خطورة عدم النظر في القضية وإسقاط الأسس التي اعتمدت عليها. في إحدى المذكرات نبه أولئك من أن المعايير التي اعتمدت في إدانة المؤسسة ومسؤوليها وموظفيها الخمس لا تناقض فحسب المعايير القضائية الأمريكية تاريخيا، بل إنها تناقض كذلك المعايير القانونية الغربية المعمول بها لقرون طويلة منذ الحقبة الرومانية، ولكن، وللأسف الشديد فإن المحكمة العليا لم تنظر إلى ما وراء الإطار السياسي للقضية. وهكذا، فإن الأحكام الظالمة والدراكونية الصادرة بحق كل من الإخوة: شكري أبو بكر (رئيس المؤسسة: 65 عاما)، غسان العشي (رئيس مجلس الإدارة: 65 عاما)، الشيخ محمد المزين (جامع تبرعات في المؤسسة: 15 عاما)، عبد الرحمن عودة (مدير فرع المؤسسة في نيوجرسي: 15 عاما)، ومفيد عبد القادر (متطوع مع المؤسسة: 20 عاما).. تكون قد ثبتت، ولكن يبقى الأمل بالله كبيرا، بأن الحق لا بد منتصر في النهاية. قبل بضعة أشهر وصلتني رسالة من الأخ شكري أبو بكر يعتب فيها على الجالية ومؤسساتها لعدم إيلاءها الاهتمام الكافي لقضيتهم، ولا أشك للحظة بأن هذا العتب في محله. فهؤلاء الإخوة الخمسة ليسوا أكثر من كبش فداء قدموا لهجمات سبتمبر، كما أنهم كانوا كبش فداء لسياسات حكومة شارون الإجرامية حينها وعجزها عن سحق إرادة الشعب الفلسطيني المطالب بحريته وكرامته. لم تستطع الحكومتان الأمريكية والإسرائيلية تقديم ولو دليل واحد يؤكد أن مؤسسة الأرض المقدسة خانت عملها الخيري الصرف والبحت، ولذلك قام الإدعاء بمخالفة كل المعايير القانونية والدستورية في قضيتها. تخيلوا أن متهما لا يعرف من هو خصمه ومن هو الشاهد ضده وما الأدلة التي يزعمها لإدانته!؟ هذا ما حصل في قضية الأرض المقدسة للإغاثة والتنمية. بقي أن نقول أننا على يقين بأن الله جلّ شأنه لن يضيع أجر أولئك الإخوة المظلومين. فجهودهم الكريمة وأياديهم الحانية التي مسحت على رؤوس الأيتام، وكفكفت دموع الأرامل، وأطعمت الفقراء، وسدت حاجة المحتاجين، وآوت المشردين، وَكَسَتْ العارين، لن تضيع هباء ولن يترهم الله أعمالهم. كما أننا كلنا أمل، بأن جهود إحقاق الحق في هذه القضية لم تصل بعد إلى طريق مسدود، "{5} فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. {6} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" (الشرح). كما أن الأمل يحذونا بأن التغيرات الجارية في المنطقة العربية قد تأتي ببعض بشائر الخير لجاليتنا وللمظلومين. فقبل أسابيع قليلة سمعنا من الرئيس المصري محمد مرسي خلال زيارته لنيويورك بأن حكومته ستعمل على متابعة قضية مؤسسة الإغاثة والتنمية مع الإدارة الأمريكية. لا نعرف ما هي حظوظ مثل هذا التدخل لو جرى، ولكنها مؤشرات من هنا وهناك تبعث على الأمل. وأخيرا نسأل الله عز وجلّ أن يأتي بالفرج من عنده وأن ييسر لأولئك الإخوة محاكمة عادلة تتماشى ومعايير العدالة الأمريكية الصرفة والحقة.. هذا ما يطلبه أولئك الإخوة.. ليس أكثر من محاكمة عادلة.