لم تتعدى مراهنات ميت رومني في المناظرة الاخيرة ابعد من السعي لعدم ارتكاب مزيد من الاخطاء، وابراز كفاءة لموقع الزعامة بديلا للرئيس اوباما. اما مسؤولية الرئيس اوباما فكانت اعلى مكانة واثقل حملا اذ كان يعوّل عليه احداث تصدع في مكتسبات رومني الآنية لبعض الشرائح الانتخابية، وادخال الطمأنينة لقاعدته الانتخابية بجدارة تبوئه المنصب الرئاسي مرة اخرى. بالمجمل، اداء المرشحيْن لقي تعاطفا اضافيا من قواعدهما مع الاخذ بعين الاعتبار اجماع المراقبين والقواعد الانتخابية على تفوق الاداء للرئيس اوباما، بعد تصديه المُركّز والفعال لسجل خصمه المليء بالثغرات. وتجدر الاشارة الى سعي المرشح رومني الحميم لاقحام الوضع الاقتصادي على نقاش المناظرة رغم ادراكه التام بانها مخصصة لبحث السياسة الاميركية الخارجية. ساد شبه اجماع على تحقيق ميت رومني كل ما اتى لاجله، وبالمقابل استعاد الرئيس اوباما حيويته وترسيخ دعم قاعدته الانتخابية مرة اخرى؛ بيد ان القرار الفاصل سيأتي بعد اقفال صناديق الاقتراع عشية يوم 6 تشرين الثاني / نوفمبر المقبل. في مراجعة سريعة لتاريخ الانتخابات الرئاسية الاميركية يتبين هشاشة عامل المناظرات الرئاسية في التأثير المنتظر على النتائج النهائية.جدير بالذكر، ان احدث استطلاعات الرأي، للحظة اعداد التقرير، تشير الى تحسن وضع رومني بنسبة تأييد تصل الى 49%، بينما حدث بعض التصدع في قاعدة دعم الرئيس اوباما ويتخلف عن خصمه ببضعة نقاط مئوية. لكن احصائيات مركز تتبع الاستطلاعات القومية تشير الى تقارب شديد بين الاثنين: 47.5% للرئيس اوباما مقابل 47.3% لرومني، اي شبه تعادل بينهما. البعض وظف الدراما في المشاهدات للسخرية من كلا المرشحيْن اللذيْن "تبادلا المواقع .. اوباما ظهر بمظهر جورج بوش(الابن – متشددا) ورومني ظهر مقلدا اوباما" كالحمل الوديع. اما حقيقة الامر، بالنسبة للسياسة الخارجية، فثمة فارق جوهري بينهما يتمحور حول استعراض القوة العسكرية لاثبات الدور القيادي للولايات المتحدة على المستوى الدولي (كما يرغب الجمهوريون) والاعتماد على القوة الناعمة اولا (كما يروج له الديموقراطيون). اوباما، من جانبه، سعى للفت الانتباه الى"تعاظم القوة الاميركية عما كانت عليه في بداية عهده الرئاسي .. لم تكن تحالفاتنا (الدولية) قوية يوما مقارنة بما هي عليه الآن." اما في مسالة الانفاق العسكري، فان ميزانية اوباما "تتحكم بها الضرورات الاستراتيجية"المعلنة "وليس الاعتبارات السياسية،" كما اوضح. جدير بالذكر ان اوباما حافظ على المكانة المميزة "لاسرائيل" في العلاقات الثنائية معها ومعاملتها"كاكبر حليف للولايات المتحدة في منطقة الشرق الاوسط؛" مشددا على الدور القيادي البارز للولايات المتحدة في التعامل مع الازمة السورية؛ ومؤكدا على السعي الحثيث "لحشد قوى عالمية" لكبح الجهود الايرانية في اقتناء برنامج نووي. كذلك تباينت مواقف المرشحيْن في تحديدهما"للخطر الاكبر الذي يتهدد الامن القومي" الاميركي: اوباما اعتبر"الشبكات الارهابية" في صدارة التحديات مما حدا بالولاياتالمتحدة"الابقاء على جهوزيتها ويقظتها .. وفي نفس الوقت الوقوف الى جانب الحركات الديموقراطية في تونس ومصر وليبيا، والاستمرار في تدمير تنظيم القاعدة، بغية اعادة الاعتبار للقوة الاميركية." وانتقل مباشرة بعد هذا العرض والتوصيف الى تعليل خفض الانفاقات العسكرية "وتكثيف الانفاقات الحكومية في الداخل الاميركي –لتطوير مقومات البنى التحتية وتشجيع الاستثمار الحكومي في مجال الابحاث والتقنية المتطورة مما يؤهل الولاياتالمتحدة للمنافسة مع القوى العالمية الاخرى. كان جليا للمشاهد اضطرار الرئيس اوباما اتخاذ موقف الدفاع عن النفس خلال المناظرة مما يقوض حظوظه نسبيا بين فئة المترددين من الناخبين؛ عندما اهتم بتفنيد هجوم رومني عليه لجولته الشرق اوسطية في مستهل فترته الرئاسية، اذ قال "كل ما تلفظ به الحاكم (لولاية ماساتشوستس) رومني لا يمت للحقيقة بصلة، بدءا من تلميحه بان الجولة (المذكورة) انطوى عليها تقديم الاعتذار" نيابة عن سياسات الولاياتالمتحدة لتلك الدول. شكلت تلك الملاحظة احدى المحطات للمهتمين بقياس رأي الجمهور، اذ استطلعت شبكة (سي ان ان) اراء عدد من "الناخبين المترددين" فور انتهاء الحديث بتلك المسالة، واشارت الى المرتبة المتدنية جدا لرضى الناخبين من تفسير الرئيس اوباما. من الهفوات الاخرى للرئيس اوباما كان رده الفوري على اتهام رومني له بأن سلاح البحرية الاميركية اليوم هو اصغر حجما مما كان عليه عام 1916، اذ اجاب "لم نعد نعتمد على الخيل والحراب." الامر الذي قد يسبب له بعض المتاعب بين الناخبين في ولايات تعتمد اقتصاديا على القواعد البحرية وبناء السفن مثل ولاية فرجينيا التي تستضيف واحدة من اكبر القواعد البحرية الاميركية. وقد تثار المسألة مرارا عدة في الايام المقبلة قبل الانتخابات خاصة مع وعي الجمهور لاستمرارية سلاح مشاة البحرية – المارينز في استخدام الحراب والتدرب عليها الذي يعد اجتيازه بنجاح شرطا ضروريا للانتساب لصفوفه. اما ميت رومني، فقد بدى ظاهرا للعيان سعيه الدؤوب لتجنب الظهور بالافراط في التشدد. لم يخف المشرفون على الحملة الانتخابية للحزب الديموقراطي نيتهم لدفع رومني كي يظهر على حقيقته كمتهور لا يتورع عن شن الحروب، لكن رومني فوت عليهم الفرصة بمهارة. ايضا، خلط رومني اوراق مشرفي الحملة الانتخابية لخصمه بتعمده الموافقة مع الرئيس اوباما في عدد من المسائل وتركهم في حيرة من امرهم. ان دل ذلك على شيء فهو يدل على ارتياح رومني للزخم الانتخابي الذي حققه بعد المناظرة الاولى، ورغبته بعدم الانجرار الى مواجهات وسجالات تنطوي على مخاطر كبرى حتى لو ادى ذلك لتسديد الخصم بعض النقاط ضده. برع رومني في توصيف مواقفه وقناعاته المتباينة مع خصمه، واتهام سياسة الرئيس بالاخفاق في عدد من المسائل الحساسة، لا سيما ايران التي "اصبحت على مقربة اكبر من اقتناء السلاح النووي بعد السنوات الاربع" للرئيس اوباما الذي "شجعت (سياساته) اعداء اميركا بالنظر اليها وكأنها ضعيفة .. (خاصة) في تفاديه زيارة اسرائيل (خلال جولته في المنطقة)، وصمته حيال تصرفات الحكومة الايرانية ضد الاحتجاجات التي شهدتها عام 2009، وسياسة خفض الانفاق العسكري." فيما يتعلق بسورية، اعتبر رومني انها تمر في مرحلة حرب اهلية ظاهرة للعيان "ولا يزال (الرئيس) الاسد في السلطة ..وانحسار النفوذ الاميركي عبر العالم بسبب السياسات الراهنة .. ومنها التراجع عن التزاماتنا السابقة لقواتنا العسكرية .. والعلاقة المضطربة مع اسرائيل." ومضى في توصيفه ملامح تراجع النفوذ الاميركي على المستوى العالمي الذي ترجم الى"تراجع روسيا عن اتفاقياتها المبرمة مع الولاياتالمتحدة بعدم نشر الاسلحة ..واستمرار كوريا الشمالية في تصديرها للتقنية النووية." اما وصفته للخروج من الازمة كما يراها فهي "تخفيف تدخل الدولة (المركزية) في الشؤون الداخلية، وممارسة اكبر لدور اميركا القيادي عبر العالم." تخلل المناظرة بعض المفاجآت للجمهور الذي كان تواقا لمعرفة تفاصيل الهجوم على القنصلية الاميركية في بنغازي، يوم 11 ايلول، اذ غاب النقاش الجاد لتلك المسألة الهامة للجمهور الاميركي. بعضهم تكهن بأن تفادي رومني اثارة المسالة كان لادراكه جهوزية الرئيس اوباما للرد عليه واحراجه مجددا لتصرفاته فور الاعلان عن العملية مطلقا سيل من الاتهامات مما احرجه امام قواعد حزبه الجمهوري. فيما يخص الشرق الاوسط بمجمله، يدرك رومني ان السياسة الاميركية هناك ارتدت سلبا على الرؤساء الاميركيين المتعاقبين.اذ تعهد رؤساء ثلاثة بما فيهم اوباما باصلاح واعادة تشكيل المنطقة، وحالفهم الندم جميعا على ما اقترفوه. الجهود المكثفة التي بذلها الرئيس بيل كلينتون لعقد صفقة العصر بين "اسرائيل" والفلسطينيين ادت الى اطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية؛ ترويج جورج بوش الابن لنشر الحرية في المنطقة اسفرت عن كارثة العراق؛ اما اوباما فقد بدى اكثر اطمئنانا لسلاسة خطابه واسلوبه في تنفيذ الاستراتيجية الاميركية ويواجه منطقة يتعاظم فيها نفوذ الاخوان المسلمين والمد الايراني اكثر من اي وقت مضى. رومني من جانبه شاطر الرؤساء الاخرين في التعبير عن رؤية اوضاع مثالية في الشرق الاوسط، كما جرت العادة في المواسم الانتخابية، وفضل العزف على القضايا التي تتحكم بها الولاياتالمتحدة مثل"القوة العسكرية الاميركية ونسج العلاقات مع حلفائها." واعرب عن قناعته بأن تقليص القوات العسكرية الاميركية تسبب بالاذى للحلفاء بدل اسنادهم مثل بريطانيا وفرنسا و"اسرائيل" وكوريا الجنوبية واليابان؛ بينما يتنامى دور القوى المنافسة الاخرى مثل ايران وكوريا الشمالية وروسيا والصين.