المتأمل فى تاريخ التحولات الكبرى فى المجتمعات الإنسانية لابد أن يلاحظ ظهور أفراد من الناس تحفزهم رغبات عارمة للسيطرة على البشر وإخضاعهم.. هتلر ولينين واستالين ونابليون أمثلة بارزة على ذلك.. ولكن إذا أمعنَّا النظر أعمق من هذا، لا يمكن أن نتغاضى عن أهم وأشهر مدرسة فكرية ظهرت فى العالم الغربي.. كرّست جهدها للسيطرة على البشر؛ إنها "مدرسة فرانكفورت" فقد اكتشف رُوَّادها أن أخطر وسيلة لذلك هى خلق منظومة فكرية ونفسية.. تتوارى فيها فكرة الألوهية ليصبح الشيطان هو الحاكم الأكبر .. فإذا سيطرت القوى الشيطانية تحركت نزعات العنف الكامنة فى نفوس الناس كمقدمة لانطلاق ثورة موجَهة يتم فيها تدمير ثقافة مجتمع لصالح ثقافة جديدة.. تعمِّق شعور الناس بالاغتراب والقلق وتفجِّر عوامل الغضب والعنف.. وبذلك تخلق بربرية جديدة تمزق الإطار التقليدى لثقافة المجتمع وهويّته.. ربما كان أول من نبّهنى إلى خطورة هذه المدرسة هو الدكتور عبد الوهاب المسيري؛ أشار إليها فى كتاباته ومحاضراته.. وتحدَّث عن زعيمها وأبرز قياداتها .. فشَغَلَت ذهنى قرابة العام بحثًا ودراسةً.. دعّمها حشد من الاقتباسات المطوّلة.. جمعها صديقى الدكتور صلاح عبد الكريم من مصادرها الإنجليزية فى مخطوط كبير؛ بلغ أكثر من ألف ومائة صفحة.. ثم ترجمها -بعد ذلك- إلى العربية ونُشرت فى ثلاثة مجلدات كبيرة.. كان لى شرف مراجعتها وتصحيحها..
نتائج هذه الدراسة انعكست عندى فى مقالات نُشرت -منذ سنوات- فى مجلة الهلال والمختار الإسلامي.. وفى مواقع أخرى.. منها مقالة مشهورة بعنوان "الفاشية الناعمة" أشرت فيها إلى أن هذه الشخصيات تتوحد فى سمات مشتركة: فهم جميعا متقلبو المزاج.. مصابون بقلق عارم ورغبة شيطانية فى إحداث انقلاب فى المجتمعات البشرية عن طريق السيطرة النفسية والفكرية على الإنسان ، ولديهم جميعا نزعات إلحادية متطرفة.. تقلبوا فى ولاءاتهم بين الشيوعية والرأسمالية والنازية والصهيونية ..
أشاع رُوَّاد هذه المدرسة أن الإبداع الفني ليس إلهاما من السماء كما كان الاعتقاد فى السابق؛ وإنما هو نتاج تأثيرات مادية على العقل كتأثير الحشيش والأفيون على المخيَّلة الإنسانية .. وأن برمجة اليأس من الألوهية، تعنى طرد الباعث الأخلاقى من السياسة والمجتمع.. وكانت تحليلات بنجامين وأدرنو تمثل الأساس النظرى لكل الاتجاهات السياسية الإلحادية التى انتشرت كالوباء فى المجتمعات الغربية..
ولكن الذى حوَّل نظريات مدرسة فرانكفورت إلى ثورة فى ستينيات القرن العشرين هو كتاب "ماركيوز" بعنوان (Eros and Civilization) زعم فيه ماركيوز: أن الأمل الوحيد للإنسان لكى يفلت من سطوة المجتمع الصناعى هو تحرير غريزته الجنسية وإطلاقها لتتمرد على العقلانية.. و أن الحياة إنما هى مجموعة من شعائر جنسية.. وقد هيمن تلاميذ ماركيوز وأدرنو بصفة مطلقة على الجامعات حتى اليوم؛ بحيث إنك لا تكاد تجد كتابًاً - فى الفنون أو الآداب أو اللغة- لا يعترف بشكل صريح بأنه مدين لمدرسة فرانكفورت ..
من هنا يجب أن ندرك المصدر الحقيقي لفن باسم يوسف والهدف الذى يراد من ترويجه فى المجتمع المصري.. لا أزعم أن باسم يوسف هو العبقري الذى ابتدع هذا الفن.. ولكنى متأكد أنه أحد أبرز المتخرجين فى معاهد التدريب الأمريكية المخصصة لإفساد عقول الشباب.. الشكل الخارجي البريئ هو المتعة بالإضحاك.. ولكن السُّذج فقط هم الذين يقتنعون بهذا..
فالإضحاك ليس هو غاية برنامج باسم يوسف.. وإنما مجرَّد وسيلة شأنها كشأن آليَّاته الأخرى: الكلمات المصحوبة بإيحاءات: من الغمز واللمز وحركات الشِّفاه والحواجب والأصابع وهز أجزاء أخرى من الجسم.. فى إشارات جنسية صريحة.. كلها وسائل لتحقيق غاية أبعد وأخطر: هى ابتذال القيم الأخلاقية والدينية.. والسخرية من الإسلام والرموز الإسلامية.. ومن كل ما اعتاد المجتمع على تقديره و تقديسه؛ فالتشكيك فى هذه القيم .. والجرأة عليها هدف محوريِّ لهذا البرنامج...
الصيدلانية شمس الدين شخصية مثقفة –قليل من الناس من يعرفها قارئةً شديدة الحساسية، وكاتبة واعدة- كتبت فى مدوّنتها "السيف والقلم" عن هذه الحقيقة كتابة تستحق التنويه.. تحت عنوان "تجنيس ما لا جنس فيه".. وهى تقصد إقحام الجنس في كل شيء حتى أصبح موضة عند المثقفين و مُدَّعي التحرر..
ترصد شمس الدين فى الإعلام محاولات لتطبيع الجنس في حياتنا و إزالة خصوصيته.. وهى واثقة أن الجنس لا معني له في ثقافتنا إلا في [إطار] منظومة الزواج .. وأن ما خرج عن هذا نزل إلى مرتبة الزنا.. و تصفه بأنه من الكبائر.. هالها أن تلاحظ أن تطبيع الجنس "ينتشر فى مجتمعنا انتشار النار فى الهشيم." ثم تأتى للنقطة الجوهرية فى الموضوع لتنسب هذا التحوُّل إلى أصحابه.. تقول: "إفيهات المدعو باسم يوسف تفيض منها التلميحات الجنسية و تقحمها إقحامًا سخيفًا.. كي تُضْفي علي البرنامج جوًّ مفتعلًا من الجرأة والتحرر... تقول: " و لا ادري هل ينتبه الجمهور للكلمة العابرة التى [تُحشر] فى وسط الكلام... و التى توحى بمعانى خسيسة..؟ حيث تكفي النظرة الخبيثة بعد الكلمة المقصودة كي تفي بالغرض كله..!".. تلاحظ شمس الدين أيضا أن أمثال باسم يوسف يستخدمون ذريعة خبيثة للغاية يُحصِّنون بها أنفسهم تجاه منتقديهم ..إذ يقولون: بأنها برامج موجَّهة لمن هم فى سن الثامنة عشرة وما فوقها.. وأن من يتفرج عليها هو من جنَى علي نفسه !!! تقول: إن هذا المصطلح دخيل علي ثقافتنا" وتتساءل: "هل يتحول الخطأ بقدرة قادر لصواب بعد سنّ 18 سنة ؟؟.. أمْ أن الخطأ يظل خطأً سواء تحت أو فوق الثامنة عشرة.. متزوج أم غير متزوج . للأسف.. غياب المرجعية يفعل اكثر من ذلك ..." تبدى شمس الدين دهشتها فتقول: إن هذه كانت فى الماضى ثقافة قاصرة على أولاد الشوارع.. وعلى بعض من يزعمون التمرد و الليبرالية..؟ وتستطرد: " أم ان االكلّ قد أصبح ليبراليًا.. لا يتقيد بالأخلاقيات البالية القديمة ؟؟!"
تشفق شمس الدين على الغالبية العظمى من المشاهدين لبرنامج باسم يوسف .. ومن قراء علاء الإسواني، الذين لا يملكون عقلية نقدية ولا ثقافة دينية أو أخلاقية تساعدهم على التمييز بين الحق و الباطل.. أوبين الحلال و الحرام فينزلقون بسهولة إلى الغواية والضلال.. وتستغرب أن يحصر هؤلاء الفنانون والكُتَّاب -الذين يزعمون أنهم مبدعين يتميَّزون بالخيال المتَّقِد والموهبة- جهدهم فى موضوع واحد هو الجنس .. وتندهش أن أحدّا منهم لم يتأثر يجمال الطبيعة من حوله.. تقول: ألم يشاهد أحدهم "الشروق أو الغروب في لحظة تجلِّي بديعه ؟؟ ألم يمر أحدهم علي مروج خضراء مزروعة بالنعناع .. مروِيَّة للتَّوِّ ليشعر بالإنتعاش..؟؟.. ألا يفهم هؤلاء معني الصداقة الحقة.. و تهلُّلَ الأسارير عندما يري المرأ من يحب.. ابتهاجًا روحيًّا بحتًا ؟؟.. ألا يرى شيئًا من المشاهد التي تبعث فعلًا على راحة النفس كي يصفها وصفًا بديعًا دون تجنيسها ؟؟ !" وتعترف بأنهم يتهموننا بالجمود والتحجّر لأننا لا نتذوق فنونهم المنحطة المنغلقة على موضوع واحد هو الجنس.. وكأنه هو المبدأ والمُنْتهَى.. ولكن حقيقة الأمر كما تراها شمس الدين: أن من يضيّق أفقه الفني والأدبي إلى هذا الحد هو المتحجر و هو الفاقد للإحساس بالجمال و الحب الحقيقي .. إنهم لا يدركون "أن القيم كلٌّ لا يتجزأ؛ فمجتمع تطربه النكات القبيحة ولا يستنكرها، هو نفس المجتمع الذي تشكو نساؤه مُرَّ الشكوى من التحرش فى الشوارع.. و هو من يتعامل مع الَّلاجئات السوريات بمنطق أحط من الحيوان إستغلالًا للظروف .. و هو نفسه من يهلل لصورة شاب و فتاة يتبادلان القبل في الطريق العام و يعتبره تتويجًا للحرية !!!"..
أعتقد أن شمس الدين بعد أن تقرأ هذا المقال سوف يزول استغرابها ودهشتها: أن تعلم أن كل هذا لم يهبط علينا بالصدفة المحضة ولا هو ابتداع أو انحراف تلقائى من شخصيات ضلَّت الطريق بالصدفة .. وأن هناك احتمال ولو ضئيل أن تكتشف انحرافها وضلالها وتتوب عنه وتعود إلى صوابها.. سوف تعلم شمس الدين أن باسم يوسف والإسواني ليسا إلا نموذجين للعديد من الشخصيات التى تم اختيارهم بعناية من قِبل مؤسسات عالمية متخصصة.. وتم تدريبهم وصقل مهاراتهم لأداء أدوار محدَّدة فى مجتمعاتهم.. ويبدأ الأمر عادة برحلات استكشافية أو منح دراسية للطلاب المتفوقين؛ يستقطبونهم عادة من الجامعات الأمريكية والمعاهد التعليمية الأجنبية الأخرى.. ثم يخضعون هناك لاختبارات تكشف عن مدى تمسّكهم بالأخلاق والدين ..
فالذين يتجاوزون الاختبار يُلحقون بمراكز التدريب المتخصصة فى صناعة القيادات تحت إشراف نخبة متخصصة من الخبراء: أساتذة فى علم النفس واللغة والاجتماع والدعاية والتلاعب بالعقول.. ولا ينتهى دور هذه المؤسسات عند هذا الحد ولكنها تستمر فى دعم هؤلاء القادة؛ بالدعاية والإعلان وتمنحهم الجوائز وتقدّمهم للجامعات والمحافل الدولية التى تشترك مع هذه المؤسسات فى أهداف واحدة .. فى أمريكا وأوروبا على السواء.. ليعود الرائد المدرّب إلى بلاده مُحمَّلًا بالجوائز والشهادات والشهرة العالمية ليُحدث فى مجتمعه حالة انبهار.. ويتلقّى الناس تأثيراته الخطيرة بلا تساؤلات.. ويتولى الإعلام المحلِّى المرتزق والخاضع هو نفسه للتوجيهات الأجنبية بقية المهمة فى تلميع هذه الشخصيات: "الكاتب العالمي والحائز على جائزة الآداب الكبرى ... كذا.. الأسوانى..."
وقد يسأل أحد القراء: فما الذى يحدث لمن يرسب فى الاختبار الأخلاقي الأول..؟ إجابة على هذا السؤال أحكى لك قصة صحفية كتبت عن تجربتها الخاصة؛ فقد سافرت لأمريكا ضمن مجموعة من الصحفيين المصريين فى برنامج وُصف بأنه "لتبادل الخبرات" وقد منَّت الصحفية نفسها بلقاء كبار الصحفيين الأمريكيين والتعلُّم من خبراتهم ولكنها قضت أياما طويلة فى زيارات ورحلات لأماكن قُصد بها الإبهار ولفت الأنظار إلى عظمة أمريكا.. ثم طُلب منها أن تكتب شيئا عن ختان البنات فى مصر وأن تتحدث برأيها فى هذه العملية.. وإلى أي مدى تستنكرها.
بصرف النظر عن رأيها الشخصيّ فى الموضوع- أدركت الصحفية بذكائها أن هذه هى المهمة التى يُراد لها أن تتدرب على أدائها فى أمريكا لتمارسها عندما تعود إلى مصر: أن تشكِّك فى الأفكار والشعائر الدينية الإسلامية.. وأن المسألة ليس فيها تبادل خبرات مع صحفيين ولا تعليم ولا يحزنون..! [email protected]