ليس صحيحاً انه يعود الى اللبنانيين «وحدهم» ان يختاروا رئيسهم العتيد، كما يردد غير زائر أجنبي وعربي لبيروت في إطار المساعي الخارجية لحمل اللبنانيين على تمرير الاستحقاق الرئاسي بالتوافق وعلى تفادي الفراغ الذي يؤدي الى الفوضى.
وإذا كانت الإشارة الى ان عليهم «وحدهم» ان يختاروا الرئيس هي من باب الضغط عليهم كي يتوصلوا الى حد أدنى من التوافق وأن يُخرجوا الرئاسة من حال الشلل التي وقعت فيها فإن الأمر مفهوم. لكن وظيفة كلمة «وحدهم» تتعدى ذلك الى ما هو أشمل وأعمق. والمقصود بها بالنسبة الى الدول التي تلح على توافق اللبنانيين أن يأتوا برئيس غير «سوري» بالتعريف السياسي لهوية هذا الرئيس. فالأزمة اللبنانية اندلعت وأخذت الشكل التصعيدي والدموي بفعل الاغتيالات، منذ تاريخ التمديد للرئيس الأكثر «سورية» في هويته السياسية، اميل لحود عام 2004، لأنه كان تمديداً للإدارة السورية المباشرة التي اتسمت بالقهر والإكراه والهيمنة والضغط والترهيب والترغيب على مدى السنوات السابقة، واستمرت بأشكال مختلفة بعد التمديد، مع بقاء النتائج نفسها على مستوى الرئاسة.
وهنا يكمن جوهر المشكلة التي تهدد بفراغ رئاسي ضمن موازين القوى الإقليمية الموجودة. فعلى رغم انسحابها من لبنان، استطاعت سورية ان تقبض على الرئاسة اللبنانية بين يديها بعد هذا الانسحاب وتمكنت من تكييفها وفق إرادتها. ولكي ترخي قبضتها عنها تريد ثمناً ما في الرئاسة نفسها، وتعويضاً عما لها في المؤسسات الأخرى وسياساتها وإلا فإنها لن تسمح بمجيء رئيس جديد، ويصبح الفراغ الوسيلة الفضلى لتحقيق مصالحها. وليست الاقتراحات التي يلوّح بها لحود، في معرض نفيه نيته تشكيل حكومة ثانية في حال الفراغ، لبقائه في السلطة بقوة الاستمرار، سوى تعبير عن الاحتفاظ بالهوية السورية للرئاسة الأولى في حال تعذر تحقيق ما تريده دمشق من هذا الاستحقاق.
إن ما يجعل المجيء برئيس جديد، مختلف الهوية مسؤولية لا تقع على اللبنانيين «وحدهم». ان القبض على الرئاسة اللبنانية من جانب دمشق على مدى السنوات الماضية كان نتيجة التفويض العربي والدولي لدمشق بإدارة الوضع اللبناني من الرئاسة الى تعيين حاجب في الدولة. وعندما قررت الدول الكبرى والعربية سحب هذا التفويض فإن دمشق فضّلت خنق الرئاسة بدلاً من إرخاء قبضتها عنها، إذا لم تأخذ مقابلاً.
وفي المقابل، فإن الانتقال من رئيس سوري الهوية، الى رئيس «اميركي» او الى رئيس «فرنسي» أو رئيس «أوروبي» طالما ان هذه الجهات هي التي كانت وراء سحب التفويض، هو من رابع المستحيلات. فلا تاريخ لبنان ولا تركيبته يسمحان بذلك والمراجع الدولية تدرك هذا الأمر وبناء عليه تحض اللبنانيين على ان يختاروا الرئيس «وحدهم». وما يجعل الأمر شديد الصعوبة هو ان الرئاسة اللبنانية باتت مفتاحاً في الصراع الإقليمي - الدولي الدائر في المنطقة.
لكن السعي الى رئيس «عربي» بدل الرئيس «السوري» هو الحل الأمثل، مقابل استحالة الرئيس «الدولي»، على رغم صعوبة ايجاد القواسم المشتركة بين سورية وسائر الدول العربية هذه الأيام، في ظل استحكام الخلاف بينها من جهة وبين المملكة العربية السعودية ومصر من جهة ثانية وغلبة تحالفها مع ايران على ما يجمعها بالدولتين العربيتين الكبريين.
إن خيار «الرئيس العربي» يرمز الى الكثير في ظل الانقسام اللبناني الراهن. ولعل مناسبة زيارة وزير الخارجية المصري احمد ابو الغيط بيروت امس تزيد من تزكيته ولا بد من ان يتبع التحرك المصري تحرك عربي آخر يترجم مسؤولية المنظومة العربية عن استعادة الرئاسة اللبنانية، والوضع اللبناني برمته تدريجاً الى شيء من التوازن في علاقاته الخارجية. فالإخلال بالتوازن جاء نتيجة اقتران القبض على الرئاسة بالقبض على اتفاق الطائف من جانب سورية وحؤولها طوال فترة إدارتها للسلطة في لبنان دون تطبيق هذا الاتفاق الى حد منعها حكومة الرئيس الراحل رفيق الحريري الأخيرة من ذكر هذا الاتفاق في بيانها الوزاري بعد ان كان النص على تطبيقه جاء في مسودة هذا البيان آنذاك.
ولربما هنا يكمن دور اللبنانيين «وحدهم» في الاستحقاق الرئاسي: ان يقتنع حلفاء دمشق بأن الحل الوسط بين الرئيس السوري وبين الفراغ، هو برئيس «عربي» الهوية يعيد الاعتبار الى الطائف بعد الحجر الذي مورس عليه كتسوية بين اللبنانيين تحت المظلة العربية. فهؤلاء الحلفاء حققوا لدمشق الكثير الى الآن، مقابل ما حصلوا عليه من دعم منها. وإنقاذ جمهورهم من الفوضى التي سيسببها الفراغ يجب ان يدخل في حساباتهم اكثر من أي حساب آخر، وقبول الرئيس «العربي» مؤشر الى إمكان المصالحات العربية لاحقاً...