شرُفتُ أمس بمحاورة هاتفية مع واحد من أبرز قضاة مصر.. قاد -مع لفيف من القضاة الأحرار- أول انتفاضة جسورة من أجل استقلال القضاء.. فى أحلك عهود الاستبداد والفساد.. أَحْتَفِظُ باسمه حتى يأذن لى بالإفصاح عنه.. وأحب أن أقرر أن هذه الانتفاضة كانت علامة فارقة بين عهدين؛ فقد إلتفَّ الشعب حولها وأدرك دلالتها؛ فى كسر حاجز الخوف والهيبة من سطوة النظام الجائر.. وأنا شخصيا أعتبرها الشرارة الأولى التى مهّدت لتحَوُّلاتٍ تالية.. انتهت بانطلاق ثورة الشعب فى مصر.. ولسوف يسجل التاريخ لحظة التحوّل الهائلة التى شهدت إلتحام الشعب مع قضاته فى وجه الطغيان.. وهى لحظة نادرة من التألق والالتحام الصادق، بدا فيها الشعب، بفطرته على استعداد للتضحية من أجل إنجاح حركة قضاته الأحرار.. للأسف الشديد –كانت بطشة النظام المستبد أعتى وأسرع فى طيّ هذه الصفحة الباهرة المشرقة .. ليخرج لنا صفحة أخرى مجلّلة بالسواد؛ حرص فيها على أن ينسف الجسور الناشئة بين الشعب وقضاته؛ فأخرج من ترسانته مجموعة أخرى من القضاة الذين أعدّهم خِصِّيصًا لتحقيق أهدافه؛ نشأوا ورتعوا فى نظامه العفن ليكونوا بعض أدواته لتحقيق أهدافه فى : القمع والتزوير والتوريث.. وضعهم على رأس الهيئات القضائية فأفسدوا طهارتها ونشروا فيها الفساد حتى كرههم الشعب وخرج فى ثورته يطالب بتطهير القضاء..
من أشهر القضايا التى أفزعت الناس –قبل الثورة- وأسلمتهم إلى حلة اليأس من عدالة القضاء، قضية غرق "عبارة السلام 98" التي راح ضحيتها أكثر من الف مواطن مصري.. حيث لم يُلْقي القبض على مالك العبارة [لصلته بأعلى الرِؤوس فى حاشية مبارك] و لم يُمنع من السفر لمدة 46 يوما تمكَّن فيها من تكييف أوراقه وإعداد شهود الزور؛ فتحوّلت التهمة على يد النيابة من "جناية القتل العمْد" إلى تهمة الإهمال .. وانتهت القضية ببراءته.. وضاعت أرواح الضحايا بلا قصاص.. وأُهدِرت حقوق ذويهم.. بل اختفى من الصورة تماما شهود عيان نجوْا من الموت.. لا يعلم أحد حتى اليوم أين اختفوْا وهل ما يزالون على قيد الحياة أم تمّ قتلهم ودفن الحقيقة معهم إلى الأبد..
فى هذا الإطار لايمكن التَّغاضى عن انخراط عدد من المستشارين في الفساد السياسيي للنظام السابق؛ ومنهم أولئك الذين عيّنهم المخلوع رؤساء فى الِّلجان العليا للانتخابات البرلمانية والرئاسية، فأغمضوا أعينهم عن عمليات التزوير الواسعة، وأعلنوا أن الانتخابات كانت نزيهة مئة بالمئة.. و كجائزة على خدماتهم منحهم مبارك مناصب عليا فى القضاء.. والذي تقاعد منهم اختاره عضوا فى مجلس الشوري.. ومن هؤلاء وأمثالهم نُسِجَتْ وتجذَرت بؤر الفساد فى أهم مفاصل القضاء المصري.. من أسوأ نماذج رجال مبارك ذلك المستشار الذى اشتهر بإثارة الفتن والصراعات والتهديدات المثيرة.. تحت شعارات زائفة مثل: "استقلال القضاء".. وهو –فى واقع الأمر- لا يؤمن به ولم يعمل قط على تحقيقه.. بل على العكس من ذلك تماما؛ فقد كان من أبرزالقضاة الذين تآمروا مع مبارك فى الإطاحة بتيار استقلال القضاء الذى قاده المستشار الجرئ زكريا عبد العزيز(رئيس نادى القضاة السابق)؛ لقد استولى على النادى بمساعدة مبارك.. وظل متربِّعا فى هذا المركز حتى اليوم..
سِجلّه مع الإعلامي –المشكوك فى قواه العقلية- مشهور.. ويتندّر به الناس حتى الآن؛ فهو الذى امتدحه على الهواء قائلا: "يادكتور "ع..." لقد صِرْتَ علامةً على الوطنية والشهامة والرجولة.. يعرف الناس أن هذا ضرب من النفاق والتَّماهِى، مع شخصية أفَّاق، لمجرد أنه يُشبع نهَمَهُ فى الظهور المستمر على شاشات التلفزة؛ والحقيقة أنه لا هو دكتور ولا فيه شهامة ولا رجولة.. بل متهرّب من تنفيذ أحكام قضائية تدينه بسبِّ زوجته وإهانتها على الهواء.. ومن جانبها، تتهمه بانه تنصُّل من النفقة على إبنه، أو الاعتراف به لأن الطفل المسكين وُلد معوَّقا.. وكأنه بتنصُّله يحتجُّ على مشيئة الله..! فأين هى الشهامة والرجولة يافخامة المستشار..؟!
يقول له المستشار الجاهل باللغة:" سير [وصحتها فى اللغة سِرْ] على بركة الله..! لن يستطيع أحد أن يمسّك بسوء.." وبالفعل تمكّن المجرم من التهرّب من تنفيذ الحكم عليه بالسجن.. ثم جاء قاضٍ من أتباع المستشار ليعلن أن المتهم مصاب بالجنون.. ومن ثم لا يمكن تطبيق الحكم عليه..! وهذه بعض مساخر العدالة المزاجية.. فى عهد الزند وعبد المجيد..
يُذكر عن المستشار الأعجوبة أنه عندما بدأ مجلس الشعب المنحلّ فى مناقشة قانون جديد للسلطة القضائية هدَّد " بأنه إذا انعقد مجلس الشعب وأصدر قوانين جديدة فإن القُضاة لن يلتزموا بها..".. ثم عاد يهدد مجلس الشورى -الذى يحاول الوصول لقانون مماثل- قائلا: لن نسمح بأن يناقش مجلس الشورى قانون السلطة القضائية".. وقبل ذلك أصدر تهديدا أنكى من هذا عندما قال: " لن نعترف بالدستور الجديد حتى لو وافق عليه الشعب فى الاستفتاء" .. وهو الذى حرَّض القضاة على الامتناع عن الإشراف على الاستفتاء على الدستور.. وهو الذى حرّض وكلاء النيابة التابعين له على النائب العام الحالى؛ فهاجموه فى مكتبه وحاولوا إجباره على الاستقالة تحت تهديد السلاح".
إنه لا يعبأ بالشعب ولا بإرادته .. ولا بالمجالس التى انتخبها الشعب ولا بالقوانين ولا الدستور..! ولا برئيس الجمهورية المنتخب؛ يعنى [شُغْل] بلطجة سافر.. وعناد وخروج على قواعد الأدب والقانون.. ثم يتبجح بعد كل هذا فيقول: "نحن كتيبة الحق والعدل".. فأي حق وأي عدل يتحدث عنه هذا الرجل..؟! بل بلغ به التطرف أنه يهدد بتدويل قضية وهمية نشأت فى دماغه: أن رئيس الجمهوية يعتدى على السلطة القضائية ويسعى لتدميرها..!
العلّة الكامنة فى أعماق هذه الشخصية المضطربة -بكل بساطة- شعور بالرعب مكبوت: أن يأتي يوم يضطر فيه للوقوف أمام محكمة نزيهة تحاسبه على التهم الموجّهة إليه بنهب أراضى الدولة.. لذلك يتشبث بموقعه فى منظومة القضاء.. معتمدا على بؤر الفساد فيها، والتى تشاركه فى علّته، ويخشى أصحابها مثله من المساءلة القانونية.. لقد طلبت نيابة الأموال العامة من مجلس القضاء الأعلى رفع الحصانة عنه لتقديمه إلى المحكمة.. [فتلكَّأ] المجلس وطلب منه أن يردَّ على مذكرة الاتهام.. وأمهله مدة أسبوعين.. وقد انتهت المدة، ولم يقدّم الرجل أي ردّ على المذكّرة؛ لأنه يعلم ويشارك مع آخرين فى التآمر على النائب العام لإزاحته من منصبه على أمَلٍ فى إسقاطه سريعًا، ليفسح الطريق أمام عودة حبيبهم العتيد.. أو أي مسخٍ آخر من طرازه.. ومن ثَمَّ لن يكون هناك حاجة للمستشار المأزوم أن يجيب على أي مذكرة اتهام بسرقة أموال الدولة..
لابُدَّ لى هنا أن أقرّر: أنه رغم هذا النقد لمؤسسة القضاء فإن هناك حقيقة لا يصح أن يتجاهلها مُنْصِف، وأعتقد أن من يتجاهلها يأثم فى حق نفسه قبل أن يأثم فى حق العدد الكبير من القُضاة الشرفاء الوطنيين.. الذين وقفوا مع العدل فى أحلك عصور الاستبداد والدكتاتورية.. وبعد الثورة لم يستجيبوا لتهديدات أو غواية الزند وأمثاله، وكانو دائما مستعدّين بل مصمِّمين على أداء واجبهم الوطني مهما كانت التضحيات.. ولولا شجاعتهم وتضحياتهم ما جرت الانتخابات والاستفتاءات بالنزاهة والشفافية التى رضي عنها الشعب وقدّرها..
ولكن جاءت بؤر الفساد فى المنظومة نفسها لتدمِّر هذه الجهود المخلصة البنّاءة.. هذا التناقض الهدّام يقابله فى الجسم البشري أمراض جهاز المناعة التى تدمر خلايا الدفاع عن الجسم وتعوقها عن مواجهة الجراثيم والفيروسات المهلكة.. وكذلك تفعل بؤر الفساد التى زرعها ورسّخها نظام مبارك فى منظومة القضاء.. ليمرّر بها سياساته فى القمع والنهب والتوريث.. ولقد حان الوقت لاستئصال بؤر الفساد فى جسم القضاء..
والذين يعتقدون أن منظومة القضاء بوضعها الراهن يمكن أن تصلح نفسها بنفسها واهمون؛ فأصحاب هذه البؤر يمسكون بمفاتيح هذه المنظومة ويتحكمون فيها .. وقد استطاعوا تشكيل رأي عام داخلي يُرهبون به كل من يتحدث عن تطهير القضاء بِحُسْبانه عدوًّا لقدسية القضاء الشامخ..!.. يجب معاقبته وعزله والسخرية منه واتهامه بالأخونة.. وللأسف الشديد يبدو لى أن وزير العدل نفسه قد تأثر بهذا الإرهاب الفكريّ، كما تأثّر به المستشار طارق البشري.. وآخرون.. بعضهم التزم الصمت وبعضهم أطلق تصريحات تدل على الانهزام والتراجع.. خشية اتهامهم بالانحياز ضد استقلال القضاء.. وكنت أتصوّر أن يكون لهؤلاء موقف إيجابي مؤثر وفاعلية وقدرة على النفاذ، بأفكار جديدة، لمعلاجة هذه العاهة المستعصية.. يبدو لى أن عبارة "تطهير القضاء" تسبب حساسية شديدة لبعض القضاة الذين يسعون حثيثا وبإخلاص لإصلاح القضاء فى الغرف الهادئة بعيدًا عن الإعلام والمجاهرة، ويستشعرون حرجًا من إخوانهم فى المؤِسسة المنكوبة برجال لا همّ لهم إلا نشر غسيلهم القذر على شاشات التلفزة ليل نهار.. فلْنتحدث إذن عن إصلاح القضاء.. بعيدًا عن الحساسيات، وبعيدا أيضا عن الهالات والعبارات التقليدية المحنَّطة، التى لم تعد تنطلى على أحد.. مثل: قدسية القضاء وشموخه.. فهناك مرض حقيقي وبؤر فساد فى جسم القضاء لا بد من الاعتراف بوجودها وتشخيصها.. واستئصالها... فاستمرارها خطر على القضاء واستقلاله وعافيته، وخطر على الأمة التى لن تغفر تبديد طاقتها وإعاقة تطلّعاتها المشروعة نحو استكمال مؤسساتها الديمقراطية.. للوصول إلى الاستقرار والتنمية.. لن يغفر االشعب لحفنة من القضاة سوَّغوا لأنفسهم الوصاية عليه فأغلقوا البرلمان الذى انتخبه بإرادته الحرة.. ولا يزالون يترصدون بالهدم لكل إنجازاته الديمقراطية..
ولا بد أن نعترف بأن القضاء بتركيبته الحالية التى صُنعت فى عهد الاستبداد والفساد لا يمكن أن يقوم بإصلاح نفسه بنفسه، ما لم تساعده قوى أخرى من خارجه على استئصال بؤر الفساد؛ بتشريعات وقوانين جديدة.. أعلم أن من الرجال المخلصين المستشار زكريا عبد العزيز، الذى عرض خطة لإصلاح القضاء من ستة نقاط قرأتها واقتنعت بها وهى جديرة بالمناقشة فى مجلس الشورى مع صاحبها .. إنها خطة بالغة الأهمية لإصلاح القضاء على المدى البعيد، ولكن يحتاج الأمر إلى إضافةٍ تتعامل مع الشخصيات المسيَّسة التى تعاند وتتحدى ولا تدّخر وسعا فى إفساد العلاقة بين السلطات الثلاثة القضائية والتشريعية والتنفيذية..هذه الشخصيات لا بد من استبعادها فورا من منظومة أصبحت رهينةً فى قبضتهم تم اختطافها والسكين فوق رقبتها.. لا بد من تحرير الرهينة بأسرع وقت ممكن.. من أجل حياتها وعافيتها .. من أجل مصر.. ومن أجل العدالة المُعاقة فى مصر..
ومن أجل هذا الشعب الذى ينفق من عرقه وماله ليطعم هؤلاء القضاة ويوفّر لهم سبل العيش الكريم .. بينما فئاتٌ كثيرة منه محرومة من أبسط وسائل الحياة الإنسانية.. وتزداد معاناتهم وتتواصل بسبب عناد فئة قليلة فاسدة فى منظومة القضاء، تقف حجر عثرة فى طريق الاستقرار والإصلاح والنهوض ... [email protected]