ظنوا أنى ميت فوضعونى على خشبة تغسيل الموتى ثم رمونى فى الزنزانة «حبيب العادلى» كان يحضر بعض جلسات التعذيب تحدثنا فى الحلقة الماضية عن أسباب تظاهرات واحتجاجات 6 أبريل، خاصة فى مدينة المحلة الكبرى، التى كانت أحداث العنف بها السبب الرئيسى فى تخليد ذكرى 6 أبريل فى تاريخ مصر الحديث. ثم تحدثنا عن دورنا فى توثيق الحدث وفضح نظام المخلوع مبارك، وما ارتكبه تجاه المواطنين الأبرياء من تنكيل وتعذيب وتلفيق للتهم. وانتهى بنا المطاف عند وقعة اعتقالى ومجريات التحقيق معى وبعض الأحداث التى عايشتها خلال فترة الاعتقال -أو الاختطاف بمعنى أصّح- خلال هذه الفترة داخل جهاز أمن الدولة بالمحلة الكبرى. ونكمل فى هذه الحلقة باقى الطريق إلى جهنم، عافانا الله وإياكم منها. استمرار التعذيب استمر التعذيب والتضييق، فلم يسمحوا لى بدخول الحمام سوى مرة واحدة حدا أقصى ولا تزيد المدة عن دقيقتين. وإذا أطال المعتقل فإن ذلك يهدده بدخول الحمام عليه. حقق ضابط واحد معى، وهو الضابط الذى اعتقلنى. وكان محور التحقيق عن علاقة الإخوان بإضراب 6 أبريل، وعلاقتى بالإخوان. وقد نفيت صلة الإخوان بالإضراب نهائيا، وسردت موقف مكتب الإرشاد الخاص برفض المشاركة ومبررات ذلك، كما نفيت علاقتى بالإخوان؛ حتى لا يجرجر آخرون إلى هذه السلخانة. وتركز حديثى معهم عن كونى صحفيا يعتبر أعضاء مجلس الشعب، بمن فيهم المهندس سعد الحسينى، مصدرا ثريا؛ لكونه نائبا نشطا. وفى جلسة التحقيق هذه، استخدم الضابط الإهانة اللفظية فقط، ولم يحدث تعذيب جسدى. جلسة التحقيق الثانية كانت فى اليوم «الثلاثاء» نحو الساعة العاشرة ليلا، وكان عدد المحققين عشرة. ويبدو أنهم من خارج المحلة، وفى الغالب من القاهرة. وقد وُجّهت الأسئلة السابقة نفسها مع استخدام الإهانة اللفظية الجنسية وقذف الوالدة واستخدام الصعق الكهربائى فى مواقع حساسة من الجسد: «حلمة الثديين- الرأس- السرة- الجانبين- سلسلة العمود الفقرى- الفخذين- الأكتاف». وضعى على خشبة تغسيل الموتى هذا عدا الضرب واللكم والصفع على الوجه مع التهديد بتلفيق القضايا أو الإحالة إلى محاكمة عسكرية. جلسات التحقيق سبع جلسات كانت تعقد وأنا بلا ملابس عدا «الشورت» الساتر للعورة مع استخدام التهديد بالاعتداء الجنسى، كما جرى تهديدى بتصويرى وأنا بغير ملابس ثم نشرها على الإنترنت وتوزيعها فى محل سكنى.. لكن الله سلّم. فى آخر جلسات التحقيق وُضعت على خشب غسيل الموتى وقُيّدت من يدى ورجلى وكهربة الفخذين واليدين وأنا بغير ملابس بفولت عالٍ. وبعد هذا التعذيب أصبت بحالة إغماء، لكن هذا لم يرحمنى من أيديهم، فرفعونى مرة أخرى على خشبة غسيل الموتى وعاودوا تعذيبى حتى سقطت جثة هامدة. عندما ظنوا أننى فارقت الحياة أوقفوا التعذيب وأصيب فريق التحقيق بارتباك شديد وحلوا وثاقى وغطونى ببطانية قذرة ووضعونى فى الزنزانة. عندما أفقت طلبت عرضى على الطبيب لإصابتى بإعياء شديد، لكن لم يستجيبوا لطلبى نهائيا، بل رفضوا توفير أى رعاية صحية من أى نوع على الإطلاق. قصة البرتقالة كانت إحدى وسائل التعذيب هو التجويع. ظللت أسبوعين تقريبا بلا طعام، اللهم سوى ربع رغيف من عيش عفن وقطعة جبن عفنة أيضا. وكان سلاحى فى التحمل هو الاستغفار بلا توقف، حتى وجدت من الشباك عسكريا يأكل برتقالة. وكنت وقتها فى حالة إعياء شديد من التعذيب أثناء الاستجواب، فقلت للعسكرى من خلف القضبان: «ممكن برتقالة؛ فأنا لم أتناول طعاما منذ زمن طويل»، فنهرنى، فسكت وأنا حزين من رده، ومن أننى وضعت نفسى فى هذا الموقف، فقلت له: «سوف يرزقنى الله بخير مما معك». ولم تمض دقائق حتى وجدت باب الزنزانة يفتح ووجدت أحد العساكر يدخل علىّ بأكياس بها أربعة أنواع من أجود الفاكهة، ونحو خمسة أنواع من عصائر الفاكهة المعلبة، ووجبة غذاء فاخرة، فاندهشت وسألته: «من أين لك هذا؟»، فقال لى: «والدك يأتى كل يوم إليك ومعه هذه الأطعمة، لكننا كنّا نقول له: لا يوجد عندنا معتقل اسمه ممدوح المنير. اليوم فقط جاء أيضا وصرفناه. وبعد أن انصرف وجدنا الضابط يقول لنا: الحقوا بوالده وخذوا ما معه من طعام وأدخلوه له»، فقلت له وأنا أعرف الإجابة: «وما سر هذا التغير؟»، قال لى: «لا أعرف.. فجأة دون سبب»، فنظرت عبر القضبان إلى السماء وبكيت، وقلت له: «أنا أعرف السبب. إذا كان الله معك فمن عليك؟! وإذا كان عليك فمن معك؟!، اللهم فرج همّ المهمومين وفك كرب المكروبين». حضور حبيب العادلى إحدى جلسات التعذيب لاحظت فى آخر جلسات تحقيق معى أن هناك حالة ارتباك شديد. وعندما سألت أحد الحراس عن سبب ذلك قال لى إن قيادات الداخلية فى الوزارة، بمن فيهم الوزير حبيب العادلى والمحافظ، قد حضروا جلسات التحقيق معك. فى البداية لم أصدقه، لكن حالة الفزع التى كان يتحدث بها جعلتنى أصدقه فى النهاية. وضعونى فى الزنزانة لمدة نصف الساعة فقط، ثم أركبونى فى اليوم نفسه سيارة شرطة «بوكس» وأنا مغمض العينين ومقيد اليدين، وتوجهوا بى إلى مقر النيابة العامة لأجد هناك ضابط أمن الدولة الذى اعتقلنى وهو يسرد الاتهامات الموجهة إلىّ على وكيل النيابة. وعندما أُدخلت عليه فى تمام الساعة الواحدة صباح الجمعة، رق لحالى، خاصة أننى كنت فى حالة إعياء شديدة نتيجة مسلسل التعذيب المستمر، كما أن ملابسى لم تتغير منذ 19 يوما، وكانت توصيفا موجزا لما مررت به، فاشترى طعاما لى وسمح لى بالنوم على الكنبة التى أمامه لأستريح قليلا. الاتصال بالعالم بعد اختفاءٍ 3 أسابيع سمح لى وكيل النيابة بالاتصال بأهلى لإحضار محامين، وكانت مكالمة شاقة جدا على النفس، ولم أتمالك نفسى؛ لاشتياقى إلى سماع صوتِ أمى الحنون الذى بعث فى نفسى طمأنينة كغريق يبحث عن قشة. وأمى بدورها لم تتمالك نفسها فبكت بشدة؛ فقد كانوا جميعا فى حالة فزع، لا سيما أن صوتى كان ينم عن حالة صحية ونفسية سيئة للغاية. وعقب دقائق من المكالمة حضر عندى 4 محامين بصحبة والدى. كان اللقاء مؤثرا مع الوالد الذى سقطت دموعه رغما عنه، وأخذ يصرخ ويدعو على الظالمين الذين عذبوا ابنه بكل هذه الوحشية. وقد طلب منى وكيل النيابة تعديد أنواع التعذيب التى تعرضت لها وأمرنى بخلع ملابسى ما عدا ما يستر العورة. وكان ذلك فى وجود أبى الذى أُصيب بحالة انهيار إثر رؤيته آثار التعذيب على جسدى. إخلاء سبيلى ثم إعادة اعتقالى حصلت من وكيل النيابة على أول إخلاء سبيل، وأُحلت إلى قسم ثانى المحلة، وطلبوا منى فى القسم التوقيع على إخلاءِ سبيلى والتعهد بالحضور صباحا باكرا على مسئوليتى الشخصية لمصلحة الطب الشرعى لتوقيع الكشف الطبى علىّ، لكن لم يُنفّذ قرار إخلاء السبيل وقتها، وتملكنى الذهول لذلك الإجراء؛ فقد كنت جديدا على هذه الألاعيب، وتوجهت إلى الطب الشرعى صباح يوم السبت فى حراسة مشددة، وعُرِضتُ على الطبيب المختص، وقال لى إنه سيثبت آثار التعذيب التى رآها بجسدى، ثم أتيتُ من مصلحة الطب الشرعى إلى النيابة مرة أخرى ومعى محضر جديد؛ لأُعرض على النيابة مرة أخرى، وتقضى بالتحفظ على إبداء الرأى فى حريتى حتى انتهاء فترة اعتقالى؛ علما بأنه لم يكن قد صدر لى أمر اعتقال لحظة صدور قرار النيابة!!. ثم تم اصطحابى بعدها إلى مبنى أمن الدولة بالمحلة مرة أخرى. ورغم اعتراضى على ذلك فإنه لا حياة لمن تنادى، فظللت بأمن الدولة بالمحلة يومى الأحد والاثنين «27 و28 أبريل». وقد حاولوا تحسين ظروف الحبس بفتح الزنزانة قليلا للتهوية، والسماح لوالدى بإحضار طعام وملابس لى، وطبعا دون رؤيته، حتى صباح الثلاثاء، ثم أخذوا بصمة أصابع اليدين والقدمين، وصورونى من الوجه والجانب، ورُحّلت إلى سجن وادى النطرون. الحبس بسجن وادى النطرون هناك حُبست فى عنبر الإخوان، فاستقبلنى المعتقلون أحسن استقبال. وكان من المعتقلين إخوان أطباء وأساتذة جامعات كشفوا طبيا علىّ وأجروا جلسات علاج مكثف لى، خاصة أننى كنتُ أصاب بشلل كلى مؤقت من آن إلى آخر نتيجة التعذيب بالكهرباء، فاسترددت عافيتى إلى حد ما بعد مرورِ نحو شهر من العلاج. وظللت باقى فترة الاعتقال فى وادى النطرون. وللأمانة كان وضع السجن والمعاملة مع الإدارة آدمية إلى حد كبير. حين حصلتُ على حكم الإفراج واجب التنفيذ -وكان الثانى من نوعه- لم يُنفّذ، وجرى اعتقالى من جديد، وأُعدت إلى وادى النطرون مرة أخرى، وبعدها بأسبوع نُشر مقال لى فى إحدى الصحف المستقلة يتحدث عما تعرضت له، ونُقلِت بعد هذا المقال بفترة إلى سجن عنبر الزراعة الجنائى فى القاهرة. ذكريات من أمن الدولة إلى وادى النطرون إلى سجن عنبر الزراعة السماء من كثرة ما نراها أصبحنا لا نشعر بوجودها؛ لم نعد ننظر إليها بعد أن تعودنا عليها؛ كل الأنظار دائما ما تتجه إلى الأرض، شغلتنا تفاصيل الحياة فوقها. أما فى السجن فكان النظر إلى السماء متعة لا تُعوّض؛ فهى المكان الوحيد الذى لا تحاط به الأسلاك. فى السجن ترى كل شىء من خلال أسلاك أو قضبان. أما السماء فهى الجزء الوحيد المحرر!؛ لا سلطان لأحد عليها؛ لم يصل الظلم إليها ولن يصل!!. كنت أنتظر غروب الشمس بفارغ الصبر؛ حتى أجلس ساعات أنظر إليها وإلى نجومها اللامعة. فى بعض الأحيان أثبت نظرى على واحدة منها وأغيب معها فى عالم آخر من أحلام اليقظة، وكأنها تسحبنى بنورها إلى عالمى الذى أفتقده وأشتاق إليه. أما القمر، ففى بداية رؤيتى إياه فى السجن فكنت أضحك رغما عنى!؛ لأنى تعودت على أن القمر حكر على المحبين والعشاق فقط، وليس لأرباب السجون باع ولا نصيب فى هذا الحب!!، لكنى -والحق يقال- أحببته رغما عنى!. كان هو الوحيد الذى له حق زيارتنا ليلا فى الزنزانة، فيصبغها بنوره الهادئ الجميل؛ عندها تبدأ ليالى الأنس بالله أو برفاق الزنزانة. كان يعجبنى فيه بشدة صموده وثباته؛ كل يوم تحاول الشمس أن تغيبه عن الأنظار.. أن تمنع بريقه ونوره الهادى، لكنه فى كل مرة كان يثبت على موقفه. قد يضعف فى بعض الأحيان ويصغر حجمه ويخف بريقه، لكنه حين تخف قبضة الشمس عليه، يعود من جديد متلألئا مكتمل القوة والعزيمة والضياء. لكنى حين انتقلت إلى الحبس الانفرادى فى سجن آخر، وحُبست فيه نحو ثلاثة أشهر، افتقدت بشدة زائرا حبيبا إلى قلبى: القمر؛ فقد كان باب الزنزانة يغلق علىّ فى الثالثة والنصف عصرا؛ أى قبل أن أراه. وحزنت أكثر لأن الزنزانة لم يكن بها شباك يطل على السماء. أجمل شىء افتقدته فيه هو رفع رأسى إلى أعلى حين أنظر إليه –القمر- وخلف القضبان أنت تحتاج أن تظل رأسك مرفوعة لأعلى، وهو ما يغيظ السجان؛ فهو يريدها دائما منكسة مكسورة، لكنى بحمد ربى ظلت رأسى مرفوعة؛ لأنى حينها كنت أتطلع بأمل إلى رب السماء. الحمّام!! أعتذر إلى القارئ فى البداية عن الانتقال الصعب من السماء والقمر والنجوم إلى الحمّام!!. قيل فى الحِكم القضبانية -نسبة إلى ما وراء القضبان- إن الحمام نصف الحبسة؛ فأن يكون فى الزنزانة حمام فهذا إنجاز ضخم يستحق الله الشكر على هذه النعمة الميمونة المباركة. وعذرا إذا كانت هذه الذكريات من ذوات الرائحة الكريهة، لكنها قصة تستحق أن تُروَى!: كنت فى أيام حبسى الأول -أو قل: أيام اختفائى (21 يوما)- أعيش فى زنزانة بلا حمام. كان هناك زجاجتان: واحدة لقضاء الحاجة وأخرى للشرب. وكلتا الزجاجتين كانت فارغة. وعندما طلبت ملء إحداهما بالماء سمح لى بذلك فى كرم حاتمى قل نظيره، لكن ظهرت مشكلة أخرى أمامى: أيهما مخصص لماء الشرب حتى أعيد ملأها؟! حقيقة لم أعرف. وإذا سألتنى: «ألم تستطع أن تميز الرائحة؟!» قلت لك: «فى الزجاجتين تساوت الرائحة. وكلتا الرائحتين كريهة!!». عموما.. فى هذه الأوضاع يبدأ الإنسان فى التنازل عن بعض ما اعتاد عليه فى حياته؛ فأنا معروف عنى مثلا أنى موسوس نظافة.. وتخيل حالتى وقتها!. لم يكن الوقت المتاح لى كبيرا، فاخترت إحداهما ونظفتها -أو هكذا أقنعت نفسى!- وملأتها بماء الشرب والأخرى نظفتها بحيث تكون جاهزة لوظيفتها الأخرى التى لا داعى لذكرها؛ تكفى المرة السابقة التى ذكرتها من قبل!. و إذا سألتنى: «وأين تقضى حاجتك الأخرى؟» قلت لك: «فى أيام الاختفاء كان مسموحا لى بدخول الحمام مرة واحدة فقط فى اليوم ولفترة قصيرة جدا لا تسمح بهذه المهمة العاجلة والخطيرة. وغالبا ما كنت أصاب بإمساك؛ لأن السجان منذ لحظة دخولى الحمام، بل وقبل الدخول، يظل يتوعد ويهدد إذا تأخرت فى أداء المهمة، لكن يبدو أن جهازى الإخراجى دخل فى إضراب مفتوح عن العمل!!، ودون إذن منى، احتجاجا عن سوء معاملته. وبهذا أصبح الإمساك سيد الموقف!!. وكان هذا عذابا فوق العذاب». كانت هذه الرحلة اليومية من الزنزانة إلى الحمام تقضى عدة طقوس منها أن أحمل الزجاجتين معى لإفراغهما من محتوياتهما وإعادة ملئهما من جديد، ثم دخول الحمام والوضوء ثم العودة. أميز ما فى هذه الرحلة هى أن تتاح لك الحركة على ساقيك ولو لأمتار قليلة؛ لأنه بطبيعة الحال كانت الزنزانة لا تفتح بتاتا إلا لأداء هذه المهمة أو للتحقيق. وما أدراك ما جلسات التحقيق!!. لكن للأمانة.. فى أيامى الأخيرة فى هذا المكان أصبح عدد مرات الدخول مرتين، وسُمح بزيادة المدة فى كل مرة. أما الشىء الإيجابى فى الموضوع، فهو أن المرء كان عازفا عن الطعام لسببين: أولهما مشكلة الطعام نفسه. وهذا قصة أخرى. وثانيهما أن الأكل تتبعه عمليتان فسيولوجيتان: الهضم والإخراج. وكلاهما لا سيطرة للمرء عليه!!. وهذا بالطبع كان حمية إجبارية كنت فى حاجة إليها ولا أزال!!. حين انتقلت إلى سجن وادى النطرون كان الزنزانة يوجد بها حمام. وكان فرحى بذلك عارما، فأوقف جهازى الإخراجى إضرابه ودخلت فى نوبة من الإسهال وتعمدت ألا أتناول له دواء حتى يستمر أطول فترة ممكنة، وكأنى أعوض ما فاتنى طوال الفترة الماضية!. حين انتقلت إلى السجن الآخر فى منطقة طره فيما يعرف ب«التغريبة»، كان استقبال إدارة السجن لى أكثر من رائع: ابتسامات ودودة، كلمات رقيقة عذبة، كان ناقصا فقط أن يأخذونى بالأحضان والقبلات. حتى إننى ظننت أنى داخل فندق الفورسيزون لا سجن!. ونتيجة لهذا الاستقبال الرائع استجمعت شجاعتى وطلبت دخول الحمام!، وكانت الإجابة أكثر رقة وعذوبة: «لحظات قصيرة وتدخل مكانك ولتفعل ما تشاء»، فدخلت فعلا وأنا هانئ النفس منشرح الصدر، وأخذت أقول لنفسى: يبدو أنهم يريدون أن يكفروا عما فعلوه معى!. و أدخلونى فعلا الحمام. وكان نظيفا رغم ضيقه (1.5 × 1.8م)، لكنى فى حبور قلت: لا مشكلة بالنسبة إلى الحمام، ثم كانت المفاجأة المذهلة أنى لم أدخل الحمام وحدى!!، بل أدخلوا معى حقائبى أيضا ثم أغلقوا الباب!!. كانت صدمة قاسية للمرء. لم أتوقع أن يكونوا بكل هذا الكرم. لقد طلبت أن أدخل الحمام فقط؛ فإذا به يتحول إلى مكان أعيش فيه!!. وتكتمل درامية المشهد حين تعلم أن المياه لا تزورنى عبر الصنبور إلا خمس دقائق فى اليوم والليلة. ويصل الفيلم المأساوى الذى عشته إلى ذروته حين تطفح المجارى على وأنا فيه، فوُضعت فى موقف حرج: إما أن أتعامل مع المجارى بيدى -لا تنسى وسوسة النظافة- وإما أن أتركها تصل إلى المرتبة والحقائب التى معى. وكان الاختيار الأول هو القرار. ويا لها من لحظات صعبة ومقيتة على النفس!. أضف إليها ضعف التهوية الشديد مع حر الصيف الذى لا يطاق، حتى انتهت هذه الغمة وانتهت معها وسوسة النظافة إلى الأبد!!، بطريقة علاج يستحيل أن تخطر ببال أفضل الأطباء!!. قابلتنى عدة إشكاليات فقهية وأنا فى هذا المكان. على سبيل المثال، ما حكم الصلاة وقراءة القرآن فى الحمام؟! خاصة أننى كنت أصلى ولا تفصلنى عن حافة القاعدة سوى (5 سم)!!. أتمنى أن يجيبنى شيخ الأزهر أو فضيلة المفتى عن هذا التساؤل البرىء!. استمر وجودى فى الحمام ثلاثة أيام بلياليها، حتى انتقلت إلى مكان أفضل وأوسع بعد أن أضربت عن الطعام واعتصمت أسرتى فى مكان الزيارة بعد معرفتهم بظروفى التى أعانى منها. ملحوظة ختامية: هذا المكان الذى كنت به يطلقون عليه زنزانة انفرادى، بها حمام. أما أنا فأطلق عليه «حمام بزنزانة»!. وسبحان من له الدوام!.. فى بداية الحبسة كنت أحمل حمامى فى يدى، وفى نهايتها كنت أعيش فيه!. والحمد لله على كل حال. فى الحلقة الثالثة بإذن الله نتعرف سرّ الرقم (608) الذى كان السبب فى نجاتى من محنة عظيمة تعرضت لها، وكيف كانت النهاية الغريبة وغير المتوقعة.