لم تسعها قدرتها العسكرية والاقتصادية الهيمنة والسيطرة على العالم، بل عمدت فى محاولاتها الدءوبة إلى استحضار دور من السماء والحق الإلهى لممارستها لإضفاء قدرا هائلا من الشرعية على مخططها وأساليبها القذرة. إن استقراء التاريخ الأمريكى لمشهد الهيمنة والسيطرة وتطويع الشعوب لمشيئتهم، كما حدث مع السكان الأصليين للقارة الأمريكية الهنود الحمر، وقدرتهم على صبغ المشهد الدموى والإبادة الجماعية بدءا بحلم وهمى للرئيس يطلب السيد المسيح من الأمريكيين تحرير العالم، ومرورا بالهلاوس باحتلال الشعوب، وانتهاء بالحق الإلهى الذى أعطاهم صك السيطرة على العالم، يجعلنا ننظر إليها بعدم الارتياح من دورها الأممى معنا، وكان استحضارنا هذا الفكر وتلك الممارسات ضرورة حتمية، لتكون نبراسا أمامنا ونحن نحكم على الممارسات الأمريكية السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية إزاءنا.. كصيحة نذير لمن يأملون منها خيرا أو نوايا حسنة. أمريكا تترنح الآن وتخسر بشكل سريع كل المكتسبات التى حصلت عليها بفعل سقوط الدب الروسى وتفكيك منظومته، يتضاءل حضورها فى أسيا بالصعود المطرد للنمو الاقتصادى للصين والهند، والتمرد الإيرانى والكورى الشمالى عليها، وفى قارته الجنوبية تتعاظم البرازيل وتتعافى الأرجنتين، ويتمرد تشافيز، وتختلف المصالح الأوربية وتتباعد الرؤى مع القارة العتيقة.. ولم يبق لهم من الهيمنة إلا المنطقة العربية التى شهدت بدورها ثورات الربيع وتباينت المصالح واختلفت الإستراتيجيات، فالمارد يتقزم رويدا رويدا فى كل القارات، ومن ثم لن يترك هيمنته بسهولة ويسر، فبدأ يرقص رقصة الموت كالحشرات، تحترق أعصابه ويتصرف بغباء شديد للاستماتة من أجل الحفاظ على هيمنته الأخيرة على المنطقة، يستخدم أجهزة استخباراته وأساليبها القذرة باحتراب الجبهات الداخلية فى كل دول الربيع العربى. فنحن بصدد سلسلة من التقارير نجوس فيها العقل الجمعى الأمريكى، ساسة ومفكرين، كيف ينظرون لنا، وكيف يتعاملون مع ثورتنا الوليدة، هل بالتعاون، أم بالنفاذ إليها وركوب موجاتها، وتطويعها لمشيئتهم برسم دور وفق رؤيتهم للمنطقة؟ فى القرن التاسع عشر قال جون أوسوليفان منذ قرنين: "إن الرب قدر لأمريكا أن تقود العالم إلى الحرية"، وهى منذ ذلك التاريخ أضحت عقيدة راسخة فى العقل الجمعى الأمريكى، طوال تاريخها القصير، بأنها ستقود العالم إلى الحرية بمفهومها الخاص وبثقافتها ونمط حياتها. لذلك لم يجد غضاضة من حرر جواز السفر الأمريكى أن يضع عبارة هى انعكاس لهذه الثقافة الطاغية، وأقحمها ضمن بيانات جواز السفر "هذا أمريكى عليك احترامه".. والعبارة بطبيعة الحال فيها أمر لضباط المطارات بضرورة تذليل الإجراءات كافة لهذا الأمريكى المنحدر من الأصول الأنجلوساكسونى، صاحب الأصول العريقة التى ينبغى ألا يتجاسرون عليه ويعطلون دخوله، بل عليهم ضرب تعظيم سلام له. ونجد تلك لغة التعالى والاستكبار فى أدبيات النخبة والنواب، فلديهم إحساس يطغى عليهم أن هناك مددا من السماء لهم يعطيهم هذا التميز والتفوق على سائر الأجناس، ففى سياق خطاب للسيناتور ألبرت بيفردج "إن الحرية تليق بالشعوب التى تستطيع حكم نفسها، أما الشعوب التى لا تستطيع فإن واجبنا المقدس أمام الله، يدعونا لقيادتها إلى النموذج الأمريكى فى الحياة، لأنه نموذج الحق مع الشرف، فنحن لا نستطيع أن نتهرب من مسئولية وضعتها علينا العناية الإلهية، لإنقاذ الحرية والحضارة، لذلك فإن العلم الأمريكى يجب أن يكون رمزا لكل الجنس البشرى". من هذا الإحساس الطاغى يروى «ريتشارد ثوى» فى كتابه «إمبراطورية تشرشل» قصة هذا «البطل العنصرى» الذى كان يقاتل من أجل نقاء العرق الأنجلوسكسونى، والذى أنشأ معسكرَى اعتقال خاصة لذلك: واحدا فى كينيا، وآخر فى جنوب إفريقيا زج فيه 115 ألف إفريقى أسود، قُتل منهم حوالى ألف ضحية، وعندما كان سكرتير الدولة للحرب، أجاز استخدام غاز الخردل ضد رجال القبائل الأكراد فى العراق، وضد البشتون فى أفغانستان. يتوافق معه فى ضرورة إبادة الشعوب المتخلفة «جون هولدرن» مستشار «أوباما» فى ثلاثة مناصب علمية: "مدير مكتب السياسة العلمية والتكنولوجية فى البيت الأبيض، والمساعد الخاص بقضايا التعليم والتكنولوجيا، والرئيس المشارك لمجلس مستشاريه للعلم والتكنولوجيا"، وله كتاب من تأليفه مع اثنين من علماء الحياة والسكان، يعرض فيه المشاهد التشاؤمية المظلمة لمستقبل العالم والمجاعات والأمراض والحروب التى ستقضى على الإنسانية إذا لم تسيطر أمريكا على خصوبة البشر!! فكرة النقاء العرقى أو التلوث العرقى فى الولاياتالمتحدة، وهى بالطبع فكرة عنصرية مستمدة من فكرة "الاختيار" لم تكن من اختراع صمويل هنتنجتون صاحب نظرية صراع الحضارات، ولا يتفرد وحده اليوم برفع رايتها أو الدعوة إليها. هذه الفكرة أبحرت إلى الولاياتالمتحدة فى سفن الغزو الأولى، ورافقت مسيرة الإمبراطورية من جيمستاون إلى مانيلا، ومن مانيلا إلى فيتنام فإلى جيكور. هناك سجل لها فى العهد الذى قطعه "الحجاج" من الله سنة 1620على متن سفينة ماى فلور.. ولربما كانت هذه الفكرة محورا مركزيا فى كتابات "البيوريتانس" مثلما هى الآن محور مركزى فى أدبيات الميليشيات العرقية وأبواق النزعة الإمبراطورية. هناك الكثير ممن لا يزالون فى أمريكا وبريطانيا يعيشون فى عصر الماموث والديناصورات ويعتقدون مثلا أن العرش الإنجليزى هو عرش داود وأن الإنجليز هم شعب الله وأن الله نفسه كما كان يرى أوليفر كرومويل رجل الإنجليز" هناك لدردفيلد كتاب بهذا العنوان وكتاب رجل الله الإنجليزى لميكائيل سميث. أعجب من ذلك، هناك من يعتقد بأن الأنجلوسكسون هم الذين يحددون مسيرة القدر ويتحكمون بإرادة الله. وفى كتاب جوسيا سترونج بلادنا our Country أعاجيب من هذا الجنون والآفات النرجسية وعبادة الذات، فهو يؤكد الاعتقادات الشعبية بأن تصميم الله لمستقبل الإنسانية يعتمد كليا على الأنجلوسكسون، وأن الله لكى يحقق ذلك أولى المهمة للفرع الأمريكى من الأنجلوسكسون، واعطى أمريكا بذلك حق التصرف لمصير الإنسانية. هذه هى الحضارة الأمريكية التى أتت إلى الهنود الحمر.. هذه الحضارة التى أبادت 400 أمة وشعب نحو 112 مليون إنسان تتحدث الدراسات الحديثة، كما أوردها منير العكوش فى كتابه (أمريكا والإبادات الجنسية) عن فناء من 90 إلى 98% منهم. وكان الإنجليز يمجدون ربهم ويقدسونه بهذه الحرب الجرثومية، بل كانوا يعتقدون أن السماء هى التى سخرت هذه الأوبئة لتكنس الأرض أمام زحف «شعب الله». لم تكن هذه الثقافة وليده فكر الفلاسفة والمفكرين فحسب، بل تجذرت فى عقول الساسة والرؤساء، فنجد الرئيس الأمريكى وليام ماكينلى عام 1898 يقول متباهيا "نحن لم نذهب إلى الفلبين بهدف احتلالها، ولكن المسألة أن السيد المسيح زارنى فى المنام، وطلب منى أن نتصرف كأمريكيين، ونذهب إلى الفلبين لكى نجعل شعبها يتمتع بالحضارة". ولقد دأب النظام الأمريكى على استدعاء التدين ليس فقط فى أنماط الحياة للمواطن الأمريكى بل عمدت تغلغله داخل المنظومه العسكرية، لإعطاء عظم المكانة والتقدير للدور الذى يقومونه لخدمة المصالح الإستراتيجية العسكرية الأمريكية وخدمة الكنيسة، من خلال تأجيج الشحن المعنوى للقتال الذى يتم فيه التوجيه العقدى لدوافع الحرب، وترسيخ الأسس العقدية الكنسية للحرب، وقدسية الحرب التى فى ضوئها تم قتال واحتلال أفغانستان والعراق، فعلى سبيل المثال وافق ريجان فى عام 1986 على قصف ليبيا لأنه اعتبرها "عدوا لله". وعندما تمكن التحالف الإستراتيجى الأمريكى الإسرائيلى من إخراج القوات الفلسطينية من لبنان فى عام 1982، اعتبر ريجان –فى خطاب له– ذلك الإنجاز "مفخرة لأمريكا، لأننا معنيون بالبحث عن السلام فى الشرق الأوسط، ليس كخيار إنما كالتزام دينى".. ولذلك كان الرئيس الأسبق ريجان يقول: إنه يتمنى أن يمنّ الله عليه بشرف كبس الزر النووى لتحقيق إرادة الله فى وقوع هرمجيدون، ومن ثم بعودة المسيح. وأعلنها الرئيس بوش بوضوح: إن الحرب على العراق هى "مهمة إلهية" يقوم بها من أجل عالم أفضل! ويستدعى محمد السماك فى كتابه "الدين فى القرار الأمريكى" نماذج من هذا الفكر وتلك المشاعر رابطا القرار السياسى الأمريكى وعلاقته بالنبوءات التوراتية" لم تقتصر هذه المشاعر على القساوسة فقط، ولكنها غمرت سياسيين أيضا، بمن فيهم بعض رؤساء الولاياتالمتحدة. ولعل الرئيس رونالد ريجان كان من أكثر الرؤساء الأمريكيين إيمانا والتزاما بعقيدة الصهيونية المسيحية. وكان يؤمن بنظرية هرمجيدون، وكان يقول: "إننا الجيل الذى سيرى هرمجيدون".. ولذلك فإن فترة رئاسته اُعتبرت الفترة الذهبية للصهيونية المسيحية فى الولاياتالمتحدة". وفى الاقتصاد نرى الكاتب ميشال موردان بوجنون يقول فى كتابه "أمريكا التوتاليتارية": إن روكفللر وأمثاله الكثيرين أسهموا فى تكوين ركيزة السلوك الاقتصادى الأمريكى فى القرن العشرين، فالرأسمالى الأمريكى القوى "بالقانون الذى يحركه" إنما يخدم قضيتين: قضيته الشخصية إثراءه ونموه العضوى الأقصى، وكذلك قضية بلده الذى ترمى رسالته الإلهية إلى نشر بنى الولاياتالمتحدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافة فى الأرض كلها. حتى فى الجغرافيا السياسية نجد أبرز مبررات هذه العقيدة بما يسمى بنظرية "القضاء والقدر الجغرافى"، أو الزعم بأن يد القضاء هى التى ترسم الحدود الجغرافية للأمم "لا تعترف الولاياتالمتحدة –كإسرائيل- إلى الآن بحدود جغرافية لها، وليس فى دستورها إشارة لذلك". ومنذ أن أطلق "جون أوسوليفان" هذا الاصطلاح فى مقالة له بعنوان "التملك الحق" تحول "القدر المتجلى" إلى عقيدة سياسية مفادها أن العالم كله "مجاهل" وأن قدر أمريكا "الأنجلوسكسونية" الذى لا ينازعها فيه أحد أن تتملك منه ما تشاء من أرض لأن ذلك حقها الطبيعى، ولأن إله الطبيعة والأمم هو الذى أورثها هذه الأرض. دور القساوسة فى صناعة القرار السياسى وضع القس سايروس سكوفيلد "هو أشد قساوسة الصهيونية المسيحية تطرفا وأكثرهم تأثيرا بلا منازع"، ما يُعرف باسم "إنجيل سكوفيلد المرجعى" فى عام 1917، وأصبح بمثابة العمود الفقرى للفكر الأصولى للإنجيلية الصهيونية. ويستمد قساوسة هذه الحركة المعاصرين –أمثال بيل غراهام، وابنه فرانكلين، وجيرى فولويل، وبات روبرتسون، وسواهم– أفكارهم التى يبنون عليها التزامهم الدينى بإسرائيل، وبما يعتقدون أنه حقها التوراتى من النيل إلى الفرات!! وقد لعب ثلاثة من القساوسة دورا فى صناعة القرار السياسى الأمريكى لم يلعبه أحد من قبل. منهم جيرى فولويل، الذى يعتبر من أهم القساوسة الذين تأثروا بالاحتلال الإسرائيلى للقدس فى عام 1967، وقاموا بإعطاء هذا الاحتلال معنى دينيا توراتيا. ومنهم بات روبرتسون، الذى يعتبر واحدا من أقوى الشخصيات الأمريكية فى الدوائر السياسية والدينية. وقد أنشأ فى عام 1990 محطة تليفزيون سماها "المحطة العائلية"، بلغ عدد المشتركين فيها 63 مليونا. ويقول: "إنه ينتظر اللحظة التى ستتولى محطته نقل وقائع نزول المسيح فوق جبل الزيتون فى القدس".. أما ثالثهم فهو هول ليندسى. ويحدد ليندسى فى كتابه نهاية الكرة الأرضية العظيمة الواسع الانتشار سيناريو نهاية الزمن، بقيام صهيون، ووقوع هرمجيدون، والعودة الثانية للمسيح، ومن ثم الألفية التى تسود العالم عدلا وسلاما. ويستند فى ذلك إلى نبوءات توراتية يربط تفسيرها بوقائع سياسية معاصرة. ورغم أن هذه الوقائع تتغير باستمرار، فإن السيناريو ثابت. إضافة إلى هؤلاء، هناك القس أرنو غيبيلين، الذى أرسى قواعد النظرية التى تقول إن التعاطف مع اليهود شىء، والإيمان بحتمية تدميرهم فى معركة هرمجيدون شىء آخر. وبالتالى فإن دعم اليهود وتأييدهم ومساعدتهم لا يتم من أجل اليهود كيهود، إنما من أجل توفير الشروط اللازمة للعودة الثانية للمسيح.