«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغرب مطالب بإدراك أن المعرفة لم تعد حكراً عليه
نشر في الشعب يوم 16 - 03 - 2013

يأتى صدور هذا الكتاب كمذكرة تفسيرية مسهبة لكتاب آخر سبق أن أصدره المؤلف، وهو المؤرخ «نيال فيرجسون» الأستاذ بجامعة هارفارد بعنوان «الإمبراطورية». وكان ذلك عقب غزو أمريكا للعراق بدفع وتحريض من جماعة المحافظين الجدد، وهم صقور السياسة الأمريكية الذين كانوا مسيطرين على القرار السياسى خلال حقبة الرئيس الأمريكى جورج بوش الابن التى بدأت مع استهلال القرن الحادى والعشرين.
وفى الكتاب المذكور، وصف «فيرجسون» أمريكا بأنها «إمبراطورية فى حالة إنكار» مشيرا إلى أن التاريخ يحذّر من غروب شمس هذه الكيانات الإمبراطورية، وهو ما استوفاه تفصيلا فى كتاب «الحضارة» الراهن الذى عمد فيه إلى تحذير أمريكا وأوروبا، والغرب عامة، إزاء صعود الصين ومن بعدها أقطار أخرى مثل الهند، بوصفهما المنافس المرتقب على قيادة مسيرة العالم.
ويصدُر عن المؤلف المؤلف فى هذا الكتاب نغمة مفادها -كما أشارت جريدة «فايننشال تايمز»- تقريع الغرب على ما يصدر فيه من الجهل بالحقائق بما تنطوى عليه من تحديات.
وأيا كان الاتفاق أو الاختلاف مع ما احتواه هذا الكتاب من أطروحات، إلا أن أسلوب المؤلف الذى يجمع بين موضوعية البحث التاريخى ورشاقة عرض المعلومات؛ أضفى على الكتاب رونقا خاصا من الجاذبية والتشويق، خاصة عندما يستدعى أحداثا من الحضارات القديمة لكى يستغلها فى استقاء العبرة لصالح الأنساق الحضارية القائمة فى الغرب والشرق على السواء.
عقب غزو أمريكا (بوش) العراق -وكان ذلك فى عام 2003- اهتم المثقفون والمحللون السياسيون بصدور كتاب ذاع صيته فى تلك الأيام؛ أولا لأنه جاء ضمن أعمال مؤرخ بريطانى مرموق المكانة فى الأوساط الأكاديمية، وثانيا لأن عنوان الكتاب ارتبط بحديث الساعة أيامها، وهو حديث دار -وما برح يدور- حول ما يصفه المراقبون السياسيون بأنه الأحلام الإمبراطورية للولايات المتحدة.
هكذا جاء اهتمام المفكرين والمحللين الدوليين بالكتاب المذكور الذى حمل أيامها عنوان «الإمبراطورية»؛ أولا لأن مؤلفه البروفيسور «نيال فيرجسون»، مؤرخ بنى مكانته العلمية فى جامعة أكسفورد البريطانية، وفى غيرها من المجامع الأكاديمية المرموقة فى العالم، وثانيا لأن صدور الكتاب المذكور تحت عنوان «الإمبراطورية» جاء وقتها تعبيرا عما كان يساور فئة المحافظين الجدد ممن سيطروا على حقبتى ولاية الرئيس الأسبق جورج بوش الابن (2000-2008)؛ حين كانت تراودهم، بل تتقمصهم، أحلام الإمبراطورية بمعنى أحلام سيطرة أمريكا على مقاليد عالم القرن الحادى والعشرين، وقدرتها من ثم على فرض ما اصطلح عليه المحللون من وصفه بعبارة «السلام الأمريكى» أو «باكس أميركانا» أسوة بما كانت عليه أحوال الإمبراطورية الرومانية التى عرفتها عصور ما قبل الميلاد؛ إذ كانت قد فرضت سلامها الرومانى أو «باكس رومانا» كما أصبح معروفا فى معاجم المصطلحات.
والمهم أن يلاحظ متابعو أطروحات مؤلف الدراسة المذكورة -وهو البروفيسور «نيال فيرجسون»- أن هذا المؤرخ البريطانى ما برح شغوفا بمتابعة تطورات ومآلات العلاقة التى تربط بين قومه فى الغرب -ومنهم أمريكا- بطبيعة الحال، وبين سائر الدول والأمم فى عالمنا المعاصر، وهو يرصد -بحكم مهنته وتخصصه العلمى- طبيعة هذه العلاقة من منظور أطروحات هذا الغرب واجتهاداته، وهو ما دعا صحيفة «إيكونومست» الإنجليزية أن تمتدح ما قدمه هذا الأستاذ الباحث بقولها إنه يقدم عرضا مبهرا للأفكار الغربية.
ولقد طرحت «إيكونومست» هذه العبارة بالذات فى توصيف أحدث الأعمال التى أصدرها «نيال فيرجسون» وهو الكتاب الذى نلقى عليه أضواء فى هذه السطور. وقد اختار المؤلف للكتاب عنوانا موجزا فى كلمة واحدة؛ هى «الحضارة»، وبديهى أن تحتاج هذه الكلمة إلى قدر من التفسير، وهو ما كفله العنوان الفرعى للكتاب فى عبارة أكثر تفصيلا؛ هى: الغرب والآخرون.
ومعناها فى تصورنا هو: الغرب مقابل -أو فى مواجهة- الآخرين. ولقد نلاحظ من جانبنا أن هذا العنوان الفرعى مستمد من أطروحات سبق إليها مع أوائل عقد التسعينيات من القرن الماضى المفكر الأمريكى الراحل «صمويل هنتنجتون» أستاذ العلوم السياسية بجامعة «هارفارد» فى كتابه الأشهر الذى أصدره بعنوان «صدام الحضارات». وفيه يرصد «هنتنجتون» ما يتصوره من ظواهر هذا الصدام بين حضارة الغرب الأوروبى- الأمريكى وبين سائر الحضارات والثقافات والكيانات الفاعلة فى العالم. ويخصّ منها الإسلام والمسلمين.
الحضارة.. من أين جاءت؟
ولأن مؤلف الكتاب الذى نعرض له فى هذه السطور يحترف البحث التاريخى؛ فهو يبدأ كتابه هذا عن «الحضارة» بمحاولة تقصى جذور هذا المصطلح، موضحا أن هذه اللفظة (حضارة) يرجع استخدامها لأول مرة، وبهذا المعنى الذى أصبحنا نتعارف عليه، إلى منتصف القرن الثامن؛ فقد استخدمها فى عام 1752 السياسى الفرنسى «ميرابو» خطيب الثورة الفرنسية الشهير. والمهم أن جاء هذا المعنى مرتبطا بالتطور المهم الذى شهدته الإنسانية من حياة الأرياف أو البوادى إلى حياة المدن أو الحواضر.
ولقد نضيف من منظورنا العربى أن هذا المعنى سبق إليه مفكرنا المسلم الكبير «عبد الرحمن بن خلدون» (1332-1406) فى مقدمته الشهيرة التى صاغ محورها الأساسى فى فكرة جوهرية تقول بإيجاز شديد: «الإنسان مدنى بالطبع».
على أن هذا التحول من القرية أو الحِّلة أو الرَبع -بفتح الراء- إلى المدينة أو الحاضرة لم يأت ببساطة، بل جاء من خلال منافسات وتفاعلات اجتماعية اقتصادية اتسم بعضها بالعنف والصراع عبر الأمصار والحدود والأقطار؛ ما جعل مؤلفنا يفتتح أطروحاته بالباب الأول من هذا الكتاب الذى اتخذ له العنوان التالى: «المنافسة».
سؤال من إثيوبيا
وفيما يبدأ هذا الكتاب بتصدير يحمل عنوان «سؤال راسيلاس» وينتهى بخاتمة يوجز فيها البروفيسور «فيرجسون» أهم نتائج البحث؛ فإن المؤلف يبسط مقولات واستنتاجات هذا البحث عبر أبواب ستة؛ إذ يعرض فى الباب الثانى تطور العلم نبراسا للحضارة، وبعدها قضية الممتلكات، خاصة ملكية الأرض بوصفها المهاد الأساسى للتطور الإنسانى، وبعد ذلك يأتى فى الباب الرابع دور الطب والعلاج بكل ما حفلا به من إنجازات بعضها جاء أقرب إلى الاختراقات أو الفتوحات، خاصة ما ارتبط بإمكانية القضاء علميا وطبيا على الأوبئة التى طالما اجتاحت الأوطان فى كل أنحاء المعمورة، وكان يمكن أن تقضى على شعوب بأكملها، ومن ثم تؤذن بنهاية الحياة فوق سطح الكرة الأرضية المعمور.
بعد ذلك يتعلق الباب الخامس بظاهرة الاستخدام والاستهلاك، التى تقترن بها ظاهرة العمل والإنتاج التى يتخذها مؤلف كتابنا عنوانا وموضوعا للباب السادس والأخير من هذا الكتاب.
فى كل حال، يتعين علينا أن نرصد إيجابية النهج المتبع فى تأليف كتابنا؛ إذ لا نكاد نلمح اهتماما يذكر بسير الملوك أو الزعماء أو الخلفاء بقدر ما نتابع رصدا تحليليا يجهد المؤلف (المؤرخ) فى تسجيله حركة التاريخ الإنسانى من واقع جهود الأفراد والجماعات الذين ساهموا، عبر العصور، فى دفع عجلة التقدم ومسيرة التمدين والتحديث إلى الأمام.
هنا يتابع القارئ جهود مشرّعى القانون المدنى والجنائى فى روما، بقدر ما يقرأ ويفهم عن مساهمة «التنظيمات» التى صدرت خلال عصور الدولة العثمانية فى تطوير التشريع، خاصة عبر ربوع تركيا والشرق الأوسط عامة.
وهنا أيضا يتابع القارئ نوعية النقلات التى شهدها التاريخ الإنسانى الحديث عبر كل من الثورة الفرنسية (1789) والثورة الأمريكية (1776) بقدر ما يتفهّم قدرة الإنسانية على التعامل الإيجابى والمبدع أيضا مع الأمراض المتوطنة والأوبئة الماحقة التى يطلق عليها مؤلفنا فى آخر فصول الباب الرابع الوصف التالى: العار الأسود.
كما نلاحظ فى سياق الكتاب كيف يهتم مؤلفنا بظاهرة التفاعل/التواصل بين أهم الأوضاع الحضارية التى عاشتها الإنسانية عبر تاريخها الطويل.
فيرجسون يحيل إلى أبرز مؤرخى الحضارات، ومنهم مَن رصد الحضارات التى اختفت من حياة كوكبنا، مثل حضارات بلاد بين الرافدين وكريت ومصر القديمة وحضارة بيزنطة حول البحر المتوسط إلى حضارة الأزتك والأنديز فى ربوع الأمريكتين.
عن حضارة الإسلام
ثم يحيل المؤلف إلى أهم مؤرخى الحضارات فى عصرنا، ومنهم مثلا «أدابوزمان»، فى أطروحة تؤكد أن البشرية لا تزال تعيش أساليب وثمار حضارات زاهرة كبرى؛ فى مقدمتها حضارات الغرب والهند والصين واليابان والإسلام.
أما سؤال «راسيلاس» الذى ألمحنا إليه فى صدر هذه السطور، فيرجع إلى ما طرحه الأديب الناقد الإنجليزى الدكتور «صمويل جونسون» (1709-1784) -وهو من عمالقة الفكر والثقافة فى إنجلترا القرن الثامن عشر- فى روايته بعنوان «راسيلاس» التى جعل مهادها فى بلاد الحبشة، وكان بطلها -كما قد نفسر- هو «الرأس إيلاس»، وهو مصطلح بلغة الأحباش الأمهرية يرادف القائد أو الملك إيلاس (إيلى أو إلياس).
وفى الرواية يطرح المؤلف، على لسان بطلها، سؤاله على الحكيم إِملاك (أو إملاق): «تُرى، لماذا تقدم أهل الغرب؟» ثم يأتى من ثنايا الإجابة قول الحكيم: «إنها المعرفة: الشغف بالعلم والتفكير يا سيدى».
تحذير للغرب
من هنا يبادر مؤلف كتابنا إلى تحذير الغرب بأن ظاهرة العِلم وجهود المعرفة لم تعد قصرا ولا احتكارا يستأثر به -كما فى مراحل مضت من عصرنا- أهل الغرب فى أوروبا وأمريكا: «لقد أصبحا ظاهرة عالمية - كوكبية- إنسانية سواء بفضل ثورات تكنولوجيا المعلومات والاتصال، أو بفضل إرهاصات باتت أكثر من واعدة، وهى تبشر موضوعيا بنهوض مجتمعات صاعدة واقتصادات عقبة وأنساق معرفية مبشرة أخرى فى مواقع شتى من عالمنا الراهن، خاصة فى الصين والهند واليابان على سبيل المثال».
لهذا يعمد مؤلف الكتاب إلى القول بأن العالم بات فى تصوره يعيش عند نهاية 500 سنة تقريبا من الهيمنة الغربية.
ومن ثم فهذه الخاتمة أصبحت تشهد صعود ونهوض القوى الأخرى، خاصة من قارة أسيا التى ما برحت تواصل النهوض أو الصعود، وبحيث أصبحت القضية -فى تصور البروفيسور «نيال فيرجسون»- هى أن تبذل كل من أمريكا وأوروبا قصارى جهدها لكى تبقى على السطح، وبحيث تطفو على مصير الاستضعاف، وهو يشير فى هذا الخصوص بالذات إلى نموذج التفاقم الشديد والمطرد فى المديونية التى ترزح تحتها اقتصاديات أمريكا، ولصالح بلد لم يكن شيئا مذكورا منذ عقود قليلة فى مضمار المنعة الاقتصادية، واسمه الصين، كما لا يخفى على الجميع.
سكان الغرب يضمحلّون
كما نلاحظ من فصول كتابنا أن مؤلفه لا يقتصر فى هذا النذير على الجانب الاقتصادي، بل هو يتحول إلى الجانب الديموغرافى حين ينبه إلى أزمة السكان الجديرة -فى تصوره- بأن تواجه الغرب فى عقود قليلة مقبلة. ويقول «فيرجسون» فى هذا السياق: «إن سكان المجتمعات الغربية ظلوا لوقت طويل يشكلون أقلية بين سكان العالم».
لكن أصبح اليوم واضحا أن سكان الغرب فى حال من التناقص إلى حد التضاؤل، ومن ثم فالمقدر أن تتجاوزهم فى ذلك الصين فى غضون 10 سنوات أو 20 سنة، ومن بعدها كل من الهند والبرازيل.
وأيا كان اختلاف النقاد والمحللين مع الأطروحات الواردة فى هذا الباب أو ذلك الفصل من مقولات الكتاب، فثمة إجماع أو ما يشبه الإجماع -وهو ما قد نشارك فيه- على أن قراءة الكتاب -حتى مع الاختلاف مع آراء يحتويها- ما برحت تجربة مثيرة للتفكير أو للإمتاع على السواء.
ويرجع الفضل فى ذلك إلى أن المؤلف -وهو الأستاذ الأكاديمى الذى يلقى محاضراته فى كبرى الجامعات ما بين أكسفورد أو هارفارد- يكاد يركز اهتمامه فى سطور كتابنا على القارئ العادى، وهو القارئ الذى يستبد به دوما شغف المعرفة ويحتاج من ثم إلى كتابة تجمع بين فضول التعلم ومتعة الاطلاع.
ومن أمثلة ذلك، ما يورده مؤلفنا عن حكاية «سنجر» الماركة الشهيرة لماكينات الخياطة، وهى التى أحدثت أيضا ما يمكن وصفه بأنه ثورة الآلة فى عالم حياكة الملابس وإنتاجها بعد عصور طالت من الحرفة اليدوية التى كانت سائدة فى هذا الميدان.
هنا يأتى المؤلف فى كتابنا ليؤكد أن «ماكينة سنجر» هذه ساعدت على اختصار المسافات وإزالة الفواصل ومحو الحواجز على مستوى الكرة الأرضية، لماذا؟ لأنها شجعت على توحيد معايير (أو مقاييس وتصاميم) الملابس فى طول العالم وعرضه، وكان المستفيد من ذلك بالذات هو الصناعات الأمريكية التى ارتفعت إنتاجيتها وزادت أرباحها إلى حدود غير مسبوقة.
من هنا يستمد الكتاب جاذبيته التى تشد القارئ عبر الصفحات، وهو ما يتحقق بفضل المواهب السردية التى يتمتع بها المؤلف على نحو ما تقول ناقدة «نيويورك تايمز» «متشيكو كاكوتانى» فى عرض تحليلى منشور لهذا الكتاب، تؤكد فيه أن التحليل التاريخى جسر مهم لفهم أفضل للمستقبل.
من جانبنا، لا نملك سوى أن نضيف أن هذا التميز السردى للكتاب -وهو ما يضفى حيوية خاصة على العرض والتحليل التاريخى- إنما يرجع فى تصورنا إلى أن الكتاب يستمد كثيرا من محاوره وأصوله من المادة التاريخية التى سبق أن أعدها المؤلف لصالح سلسلة أعمال متلفزة عن تطور الحضارة الإنسانية أذاعها التلفزيون البريطاني. وتلك عبرة نرجو أن تكون مستفادة للإعلام العربى فى بلادنا. وقد اتخذت السلسلة عنوانا يقول بما يلى: «الحضارة.. هل أصبح الغرب تاريخا؟».
والمعنى بداهة هو تحليل أو تحذير من تدهور مكانة الغرب، ومن عوامل هذا التدهور وتاريخه المرتقب والمقدور، خاصة مع رصد ظواهر يراها البروفيسور «فيرجسون» إشارات أقرب إلى النذير، ويحاول فى هذا الكتاب أن يرصدها على نحو يتراوح بين ما يلى: زوال الاتحاد السوفييتى من روسيا، وأزمة الاقتصاد الخانقة فى أمريكا، وتصدعات فى كيان الاتحاد الأوروبى... إلخ
من هنا يحيل المؤلف أيضا إلى مصائر كيانات الهيمنة الباذخة فى الزمان القديم، وكانت فى مقدمتها الإمبراطورية الرومانية التى بدأت بمعاناة التصدع والاضمحلال، وانتهت إلى مصير التداعى والسقوط ومن ثم إلى الزوال، كما قال يوما المؤرخ البريطانى « إدوارد جيبون».
المؤلف فى سطور
يعد البروفيسور «نيال فيرجسون» فى طليعة المؤرخين المحدَثين على مستوى العالم. وقد عمل زميلا باحثا أقدم فى جامعة أكسفورد ببريطانيا وكبيرا للباحثين فى مؤسسة هوفر الأمريكية ثم أستاذا فى جامعة ستانفورد بجانب موقعه أستاذا للتاريخ فى جامعة أكسفورد البريطانية.
وذاعت شهرته أيضا باعتبار أنه يجمع بين تخصصه الأكاديمى باحثا وأستاذا جامعيا وبين قدراته ومواهبه الإعلامية، خاصة بفضل مشاركاته فى توفير المادة العلمية الموثقة لسلسلة من البرامج الوثائقية التى دأبت على عرضها كل من هيئة التليفزيون البريطانية وهيئة الإذاعة الأمريكية التى أذاعت المسلسل التليفزيونى الشهير بعنوان «صعود النقود» الذى فاز بجائزة «إيمى» الشهيرة عن الأعمال الممتازة.
كما يلاحظ أن كتبا أصدرها المؤلف صُنّفت فى قوائم أفضل الكتب مبيعا وأوسعها رواجا، ومنها كتب حملت عناوين جمعت بين التنوع الثقافى والارتباط باهتمامات الجماهير مثل كتابه عن «الورق والحديد» ودورهما فى دفع عجلة الحضارة والتقدم الإنسانى إلى الأمام، وكتابه بعنوان «الإمبراطورية» الذى حذر فيه من غروب شمس الهيمنة التى ظلت أمريكا تمارسها على مقاليد العالم، فضلا عن كتابه الذى تناول فيه تاريخ ظهور النقود وسيلة للتداول فى مجتمعات العالم وتطورها، ودورها فى العلاقات بين الأفراد فى المجتمع والدول على مستوى العالم بأسره، كما ظل البروفيسور «نيال فيرجسون» يكتب عمودا أسبوعيا فى مجلة «نيوزويك»، التى كفت عن صدورها مطبوعة مع نهاية العام الماضى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.