د. فيصل القاسم استضفت قبل أعوام مفكراً عربيا كبيراً. وقد ساعدني في استضافته أحد الأصدقاء الذي كان صلة الوصل بيني وبين المفكر المرموق. وقبل أن يسافر ضيفنا الموقر متوجهاً للمشاركة في البرنامج اتصل بي صديقنا المشترك ليقول لي: «حاول أن تُكرم ذلك المفكر وتهتم به بطريقتك الخاصة عندما تلتقيه، فهو إنسان فقير، ويكاد يعيش على راتبه القليل وبعض المكافآت البسيطة التي يحصل عليها جراء مشاركته في برنامج هنا وبرنامج هناك، أو من خلال كتابة مقال لهذه الصحيفة أو تلك، أو من «الدريهمات» السقيمة التي تجود بها دور النشر على كتَّابنا وفلاسفتنا الكرام عندما يؤلفون لها كتاباً، أو يقدمون لها بحثا». بعبارة أخرى فإن صاحبنا المفكر العظيم كان فعلاً يحصل على رزقه ومسكنه بصعوبة.
طبعاً شعرت بمرارة شديدة وأنا استمع لصديقي الذي كان يوصيني بالمفكر، فقلت له سأبذل قصارى جهدي أن أساعده، وكدت أن أذرف بعض الدموع على وضعه ووضع الكثير من مفكرينا وأساتذتنا الكبار في هذا العالم العربي الذي أتقن بامتياز إذلال وإهانة كل من يحمل فكراً نيراً وأدباً عظيماً. لكنني هدأت قليلاً، واستجمعت قواي العقلية، وبدأت أفكر باتزان وروية بالوضع، فوجدت أن ذلك المفكر المسكين مالياً هو أغنى من أغنى أثريائنا وزعمائنا جميعا بامتياز، لا بالمال طبعاً، بل برصيده الفكري الذي لا ولن ينضب كما تنضب أرصدة الأغنياء المالية من المصارف والبنوك مع مرور الزمن، أو بفعل الاستهلاك أو التبذير. فحسابه الفكري أكبر من كل حساباتنا البنكية وثرواتنا المادية الآيلة إلى الزوال. نحن نزول مع أموالنا وهو يبقى كالذهب لا يفقد قيمته لا بمرور الوقت ولا بسبب تقلبات البورصة أو أسعار الفائدة. رحم من قال إن «الكفن ليس له جيوب».
من يستطيع أن يذكر لي اسم أغنى الأغنياء أو التجار في زمن الشاعر العربي الأول أبي الطيب المتنبي؟ من يستطيع أن يذكر اسم وزير الداخلية، لا بل وزير المعارف والتعليم وقتها؟ من يستطيع أن يذكر حتى أسماء القادة الكبار في تلك الفترة باستثناء أولئك الذي ارتبط اسمهم بالشاعر العظيم، أو الذين أبلوا بلاء حسنا في المعارك والفتوحات؟ من يستطيع أن يذكر لي اسم رئيس الحكومة أو أعيان البلد في زمن الموسيقار الخالد سيد درويش؟. من يستطيع أن يذكر لنا فوراً ودون العودة إلى الكتب اسم الزعيم العربي الحاكم أيام عبد الرحمن بن خلدون صاحب المقدمة الشهيرة؟ من يستطيع أن يتذكر الذين نكلوا بالمفكر العظيم ابن رشد من المتنفذين والمسيطرين وقتها؟ هل يتذكر أحدكم اسم الزعماء والوجهاء المتخلفين الذي أمروا بمحاكمة غاليلي صاحب نظرية دوران الأرض؟ من منكم يتذكر الزعماء والأثرياء الهولنديين الذين حكموا البلاد في زمن الفنان الهولندي الشهير فان كوخ؟ لا أحد غير المختصين في التاريخ طبعاً؟
لقد عاش فان كوخ كأفقر الفقراء في عصره. وقد شاهدنا جميعاً الكوخ البائس جداً الذي كان يعيش فيه من خلال لوحاته الخالدة؟ لقد قطع كوخ أذنه وعاش وحيداً مجنوناً يعاني الفاقه والفقر، بينما كان يتنعم البرجوازيون وقتها بما لذ وطاب من مأكل ومشرب ومسكن. لقد مات الشاعر العراقي العظيم بدر شاكر السياب وهو لا يمتلك ثمن الدواء الذي يداوي به أمراضه الكثيرة. لكن أين هم هؤلاء الأثرياء والوجهاء الآن؟ لقد ماتوا جميعاً، واندثر ذكرهم، وبقيت نظرية غاليلي ومقدمة ابن خلدون وألحان سيد درويش ومؤلفات ابن رشد ولوحات فان كوخ الرائعة التي تباع الآن بملايين الدولارات، بينما لم يجد فناننا الكبير وقتها ما يسد به رمقه؟ لقد بقيت أنشودة «المطر» للسياب: «مطر مطر مطر.. في العراق جوع». لقد بقي شاعر عظيم كالمتنبي يسحرنا ببديع شعره ونور فكره ووهج حكمته.
صحيح أن الشاعر الكبير أبي الطيب ذهب ذات مرة إلى مصر، وتقرّب من كافور الإخشيدي، وأسرف في مدحه في البداية على أمل أن يحصل منه على حكم إحدى الولايات، لكن مساعيه باءت بالفشل، فعاد بخفي حنين مقهوراً يعتصره الألم والإحباط ليقول قولته الشهيرة في الإخشيدي: (لا تشتر العبد إلا والعصا معه.. إن العبيد لأنجاس مناكيدُ)، لكن حتى هذا البيت القاسي جداً بحق كافور كان له أثر إيجابي جداً عليه، فهو الذي خلده في التاريخ، وجعل قراء المتنبي يتذكرونه كلما أبحروا في دواوينه. بعبارة أخرى، لولا بيت المتنبي لما لاقى الإخشيدي كل ذلك الصيت على مساوئه، فلا ننسى أن هناك مثلاً إنجليزياً جميلاً يقول: «حتى الدعاية السيئة دعاية جيدة». لقد أبرز شاعرنا العظيم فعلا الإخشيدي وحفر له مكاناً معيناً في التاريخ، ولولاه لما تذكرنا كافور كثيرا.
هل كان المتنبي سيعيش إلى هذا العصر لو أنه هجر الشعر، ولو أن الإخشيدي تكرم عليه وأعطاه تلك الولاية المبتغاة؟ بالطبع لا. قد يقول قائل إن التاريخ هو تاريخ الولاة والملوك، وهذا صحيح إلى حد ما. لكن كم من هؤلاء تركوا بصماتهم في التاريخ؟ فالتاريخ لا يتذكر الملوك والولاة لمجرد أنهم كانوا زعماء وقادة في يوم من الأيام، فحتى هؤلاء لا يبرزون على صفحات التاريخ إلا إذا تركوا ما يفيد ويؤثر بالبشرية من بعدهم. بعبارة أخرى هل كان المتنبي يحلم أن تحيى ذكراه إلى أيامنا هذه لو فاز بمنصب سياسي، أو وفرة مالية من كافور الإخشيدي؟ بالطبع لا؟ فربما مرت ولايته في التاريخ مرور الكرام. صحيح أنه كان بالتأكيد سيستفيد منها مادياً كثيراً ككل الذين يمسكون بزمام السلطة في تاريخنا العربي السلطاني، لكن هل كان ذاك الجاه سيحمل لنا اسمه حتى هذه اللحظة؟ قطعا لا؟ فالجاه يزول والحكم يؤول، لكن شعر أبي الطيب كان وما زال عصياً على الزوال؟ فأشعاره تعيش في مهجتنا كما لو أنه ألفها قبل أشهر فقط؟
لا تقولوا لي إن المفكر العربي العظيم عبد الرحمن بدوي رحل عنا قبل فترة دون أن يسمع أحد حتى برحيله؟ ففكر بدوي سيعيش أجيالاً وأجيالاً، بينما سينمحي ذكر الذين أهملوه ونفوه وعتموا عليه وجعلوه يعيش وحيداً مريضاً غريباً في الغربة. فالتاريخ أرحم وأعدل من الجميع، ويعمل بمشيئة الله، «يمهل ولا يهمل».
لا تحزن إذن يا ضيفي المفكر العزيز والكبير الذي أوصاني صديقنا المشترك بأن أهتم بك، وأكرمك عندما ألتقيك، فأنا أولا لست من أولئك القادرين على إكرام هؤلاء العظماء إلا بما يليق بهم من كلمات طيبة وعواطف صادقة أو بعض الدموع كما كان يقدم الأديب الإنجليزي الشهير توماس هاردي للفقراء! لا أريد طبعا أن أبدو زاهداً ومتقشفاً أو واعظاً كأولئك الذين كانوا «يعشّمون» الفقراء والمساكين بالذهاب إلى الجنة لو أنهم قبلوا بقدرهم وفقرهم في الحياة الدنيا، فهناك وصفة شهيرة كان وعاظ السلاطين في القرون الوسطى يقدمونها للعبيد والأقنان والمساكين وقتها، وهي أن الضعفاء والفقراء سيرثون الأرض وما عليها، لا أريد أن أروج لهذه المقولة أبداً. فهذا موضوع آخر تماماً لا أستطيع أن أفتي فيه. لكنني أستطيع بالتأكيد أن أقول لعظمائنا من كتاب كبار ومفكرين عظام وفلاسفة زاهدين وفنانين أصليين ومثقفين حقيقيين أن قيمتهم لا يمكن أن تقاس أبداً في زمننا الرديء هذا بما يحصلون عليه مادياً من جهدهم الإبداعي، فهم أكبر وأسمى بمئات المرات من أجرهم المادي الذي تتحسن به عليهم حكوماتنا العربية التي تكرم حتى على الساقطين والساقطات والسافلين والسافلات، لكنها تتردد ألف مرة في تكريم أديب كبير، أو مفكر أصيل، أو فنان فاضل.
إنه قدركم أيها الأعلام الكبار في زمن الاستبداد حيث يصعد الحثالة وتسقط النخب! وربما هي حكمة الله عز وجل أن يكون بعضنا غنياً بماله وثرواته، وهو الأفقر في هذه الحالة، لأن رصيده المالي ينتهي مفعوله بزواله، وأن يكون بعضنا الآخر ثرياً بفكره وفنه وأدبه وثقافته، وهو الغني الحقيقي لأن رصيده لا يزول برحيله عن هذه الدنيا كما يتبخر الزبد بل يمكث في الأرض ككل الأشياء التي تنفع الناس. صدق من قال: «وصنيع المال يزول بزواله والعلماء باقون ما بقي الدهر».