ليست فذلكة لغوية او لعب بالألفاظ ، وانما تقرير واقع الوضع العربي الراهن وما يخوض فيه من ازمات وما يتعرض له من عمليات تجريب كارثية بدات بعض ثمارها في اكثر من بقعة والبقية تأتي. فوقتما اجتمعت قمة في شرم الشيخ لدعم الرئيس الفلسطيني محمود عباس وبحث سبل التعامل مع حركة المقاومة الاسلامية (حماس)، عربيا واسرائيليا، كانت هناك شبه قمة اخرى في باريس تبحث المزيد من الضغط على السودان لسلخ غربه ، وكانت الاممالمتحدة مشغولة ببحث ما يمكن عمله ردا على استهداف قواتها في جنوب لبنان بتفجير لغم ارضى ومقتل عدد من الجنود الاسبان. وفي كل تلك المؤتمرات والمداولات، لا تحس للعرب تأثيرا اللهم الا في تسهيل اللوجيستيات لانفاذ خطط واستراتيجيات الاخرين في المنطقة. منذ نحو عقدين من الزمان، والمنطقة العربية برمتها محل تجريب واسع النطاق بالضبط كما يحدث مع المتطوعين كعينات بحثيه لشركات الادوية ومراكز البحوث الطبية. فمنذ انهيار الاتحاد السوفيتي وتحطيم سور برلين، والعرب والمسلمون هم افة العالم ومنبوذوه وحقل تجاربه السياسية والعسكرية. فمن تجريب النظام العالمي الجديد ونهاية التاريخ الى الفوضى الخلاقة واول واخر حتى الان غزو واحتلال في القرن الحادي والعشرين. ومع ان حرص القوى الغربية (بريطانيا وفرنسا واميركا) على العبث بالمنطقة لم بتوقف منذ مطلع القرن العشرين وبعد زرع الصهاينة في فلسطين، الا ان القوة العظمى، الولاياتالمتحدة الاميركية، التي كانت مشغولة جزئيا في منافسة الاتحاد السوفيتي وتجر اوروبا الغربية وراءها، اصبحت متفرغة لنا تقريبا منذ نحو عقدين من الزمان. وفي الثمانينيات من القرن الماضي، في اخر عمليات الحرب الباردة، رعت اميركا وبريطانيا ما يسمى الان "القاعدة"، او كما ينطقها بوش وبلير بالانجليزية "القعيدة"، بالمال والسلاح والتدريب لاخراج الاحتلال السوفيتي في افغانستان وكان وقود ذلك شباب العرب المسلمين. وحوصر العراق وتم تجويع اهله حتى اعيد الوضع الى ما يقارب ما قبل العصر الحجري، وحوصرت ليبيا وعزلت واججت الحرب الاهلية في السودان بين شماله وجنوبه وضيق الخناق على سوريا ووضع لبنان في "حنك السبع" واستبيح دم الفلسطينيين حتى وصلوا الى القيام بالمهم بالوكالة من فرط القهر والقمع وغياب الدعم والمساندة. ولم يكف التجريب عن بعد، بل وصل الان ومنذ اربعة اعوام الى حد التجريب على الارض عبر ما نشهده فيلا العراق. ويبدو كأنك تشاهد لعبة فيديو (اي بلاي ستيشن) عنيفة، مع الفارق انها ليست افتراضية بل من لحم ودم، واي لحم واي دم. ولست قادرا على ان ابلع المقولات التي تتردد بان الاميركيين فشلوا في التخطيط لما بعد غزو واحتلال العراق، والارجح ان ذلك لم يكن يعني احدا سوى المنظرين من كتاب ومحللي الغرب وبعض مدمني التفكير بالتمني في المنطقة العربية. وانما هذا الذي نشهده الان هو الاعراض الحقيقية لجولات التجريب التي مورست فينا، سواء تطوعنا او عجزنا عن الرفض. ربما يحاجج البعض بان دول المنطقة العربية، ومنذ فترات التحرر والاستقلال في بداية النصف الثاني من القرن الماضي، لم تكن مستقرة باي حال وكانت تحمل تناقضات جوهرية مستعدة للبروز على السطح في اي وقت لتهز اركان انظمة دول المنطقة. وبالتالي ينسحب القول الى انه لم يكن هناك نظام اقليمي بالمعنى الدقيق، وانما خلطة عجيبة من انظمة متباينة ومجتمعات في كل ما يميزه اكثر مما يراه يربطه الاخر في الاقليم. وفي ذلك قدر من الصحة بشكل او بآخر، لكنه لا يعني انه لم يكن هناك محاولة لتكتل اقليمي، ضعيفة وفاشلة في اغلب الاحيان، لكنها كانت موجودة والان لم تعد موجودة الى حد كبير. وهذا ماقصدته في البداية من ان ما يجري في المنطقة هو محاولة تفكيك، اذا كانت لدول ولنظام اقليمي مفكك فان النتيجة الحتمية هي "التركيب". لكن هل يمكن تصور ان اميركا وبريطانيا ، ووكيلتهما الصهيونية في فلسطين ، انما يريدون للمنطقة ودولها تطويرا ونموا وليبرالية سياسية وديموقراطية حقة ، كما نوعد بشكل التركيب بعد التفكيك. لا شك ان ذلك صعب الى حد كبير. كما انه يصعب تصور ان ينتهي الامر بالمنطقة كما حدث مع القرن الافريقي منذ ما قبل نحو ثلاثة عقود، وان نظل في حالة تفكك مزمن وضعف شديد لا يقضي علينا ولا يساعدنا على التطور. الام اذا يوصلنا ما نحن فيه! الارجح الى مرحلة اخرى من التراجع سواء بانتظار تجربة اخرى علينا، او ان يفعل لنا احد شيئا ما دمنا لا نقدر على ان نفعل شيئا لانفسنا. ومن ثم سنظل محل اهتمام الاخر القوي والغني. والعجب حقا من اي تململ على طريقة حزب الله او حماس، اذ ان ذلك يتنافى مع وضع التفكك والتفكيك الذي نحن فيه. وانما يؤرقني الان كيف ستصاغ تلك الفترة من تاريخنا في الكتب المدرسية التي ستقرر على ابنائنا واحفادنا بعد حين.