صحيح أن الإعلام يمكن أن يكون سلاح استنهاض وتحريض وإثارة فتاكاً وفعالاً في المجتمعات الحية، لكنه يمكن أن يتحول في الآن ذاته إلى أداة تخدير، وتسلية، وإلهاء، وتنويم، وتعويد، وتكريس لأوضاع مأساوية بامتياز في المجتمعات العربية الخاملة والخانعة. فقد جادل البعض قبل سنوات بأن فلسطين لم تكن لتسقط في أيدي اليهود عام ثمانية وأربعين لو كان هناك وسائل إعلام مؤثرة كتلك المنتشرة في العالم هذه الأيام. أي أن الإعلام كان سيعبئ الجماهير العربية كي تحول دون احتلال فلسطين. لكن هذه النظرية الساذجة سقطت مؤخراً سقوطاً مريعاً ومدوياً، في أكثر من امتحان، فقد حدث الغزو الأمريكي للعراق على مرأى ومسمع من وسائل الإعلام العربية والدولية الحديثة، ناهيك عن أن عدوان تموز الإسرائيلي على لبنان كان منقولاً على الهواء مباشرة على معظم الشاشات العالمية والعربية على حد سواء.
ربما أن المشاهد العربي، ومن سخرية القدر، قد تابع سقوط بغداد والعدوان على لبنان في البداية كما لو كانا مباراة كرة قدم مثيرة، لكن مع مرور الوقت فقد شهيته ل"الفُطبول" الدموي الجاري في بلاد الرافدين. وليته مازال يتابع ما يجري بين الأمريكيين والعراقيين بنفس الاندفاع الحماسي وروحية مشاهدي كرة القدم. لقد مل اللعبة تماماً بالرغم من الضخ الإعلامي اليومي الرهيب، وبات ينصرف عنها، إلى حد أن البعض يشتكي الآن مما يسميه ب"هذا التركيز الإعلامي الممل على قضية العراق".
لقد غدت الصور الفظيعة التي تبثها وسائل الإعلام العربية والعالمية أمراً عادياً للغاية بعد أن أصبحت الأحداث المأساوية الناتجة عن الغزو ذاتها أمراً يومياً معتاداً في بلاد الرافدين. فقد غدا مقتل عشرة أشخاص في تفجير هنا وغارة هناك حدثاً بسيطاً للغاية لا يثير أي شعور، هذا إذا انتبه إليه أحد أصلاً. من يهتم بعد بخبر يفيد بأن القوات الأمريكية وزبانيتها هاجمت قرية أو منطقة عراقية وسوتها بالأرض وحرقت الزرع والضرع والبشر والحجر؟ إنه مجرد تفصيل آخر بسيط من تفاصيل الحرب المملة!! لقد غدت رؤية الجثث المتفحمة والأعضاء المبتورة والرؤوس المقطوعة والأشلاء المتناثرة والأجساد المغلفة بأكياس بلاستيكية أمراً مقبولاً بالنسبة للمشاهد، وديكوراً ثابتاً في خلفية الحدث اليومي.
ولذا يمكن القول بأننا ننصرف عنها ونبحث عبر "الريموت كونترول" عن أشياء فيها متعة وإثارة وتشويق أكثر بعد أن فقدت أخبار العراق رهبتها. لقد غدونا كالعاملين في برادات الجثث في المستشفيات. فعندما يدخل طبيب التشريح أو عامل التبريد غرفة الجثث للمرة الأولى لا شك أنه يُصاب بشعور مرعب، لكن مع الأيام يصبح هو والجثث أصحاباً، وأحباباً ولا يهنأ له بال من دونها، فينام بالقرب منها قرير العين دون أن يرف له جفن. وهكذا حالنا مع فواجع العراق وفلسطين، نرتعب ونتأسى في البداية ليصبح الأمر روتينياً مع الوقت.
إنها "العادة"، كما يسميها علماء النفس، فحسب التحليل النفسي، فإن الإنسان يمكن أن يتعود على كثير من الأمور التي قد تبدو لا تُطاق في البداية، فالسكان الذين يعيشون مثلاً بالقرب من خطوط السكك الحديدية ينزعجون كثيراً من أصوات القطارات وهي تعبر بجانب منازلهم في بداية الأمر، ولا يستطيعون النوم أحياناً، لكن مع مرور الوقت يتعودون على هذه الأصوات المزعجة التي قد تصل حد الإدمان، لا بل يفتقدونها إذا اختفت ويطالبون بها في بعض الأحيان. ويبدو أن الإعلام يتقمص نفس هذا الدور بالذات ألا وهو: تعويد الناس على ما لا يمكن التعود عليه من كوارث وفواجع ومصائب وجعلها مألوفة لديهم. يا لثورية الإعلام ودوره الرهيب!
إن اتقن علم النفس هو نصف اللعبة السياسية. واعتقد أن الغزاة الأمريكيين وأتباعهم البريطانيين علماء نفس من الطراز الأول. لقد كانوا يعرفون مسبقاً أن المشاهد العربي سيتأثر بما يحدث في العراق في الأشهر وربما في السنوات القليلة الأولى، ومن ثم سيمل و سينصرف عنها حتى لو سقته وسائل الإعلام أخبار العراق بالملعقة، أو سيتعود عليها حسب نظريات علم النفس. وهذا ما حدث فعلاً.
لقد غدا دور وسائل الإعلام فيما يخص العراق الآن دوراً تخديرياً عن قصد أو من دون قصد، تماماً كما حدث من قبل مع فلسطين ولبنان. هل ما زالت أحداث فلسطين تثير أي اهتمام يذكر لدى المشاهدين العرب إلا فيما ندر؟ لم يعد الكثيرون يأبهون بما يحدث في أرض الرباط بالرغم من التركيز الإعلامي المفرط على ما يجري هناك من تنكيل صهيوني واحتراب داخلي. ولا أبالغ إذا قلت إن الكثيرين يغيرون القناة التي تبدأ نشراتها بخبر عن فلسطين. ولو كنت مكان رؤساء التحرير في وسائل الإعلام العربية لما بدأت نشرات الأخبار بأنباء فلسطين. ولا أقول هذا الكلام بهدف التقليل من أهمية القضية، بل للتذكير بأن الذكرى لم تعد تنفع المؤمنين أو بالأحرى المشاهدين لا من بعيد ولا من قريب مع كل أسف.
قد يكون الخبرالفلسطيني بما ينطوي عليه من مآسِ وألم ذا أولوية بالنسبة لمحرري الأخبار في وسائل الإعلام العربية من الناحية الإعلامية، لكنه ليس كذلك بالنسبة لمستهلكي الأخبار. ولا أبالغ إذا قلت إن الكثيرين لا يعرفون ما يجري الآن في فلسطين رغم التركيز الإعلامي الكبير عليها.
لقد أحدث الاهتمام الإعلامي المكثف، في الحقيقة، ببعض القضايا العربية كقضيتي فلسطين والعراق مفعولاً عكسياً، فالإعلام، ومن سخرية القدر، يمكن أن يؤدي إلى حالة من البرود والتبلد لدى الجماهير، خاصة إذا كانت تلك الجماهير مغلوبة على أمرها ولا تستطيع أن تحرك ساكناً كالجماهير العربية "الغفورة".
كما هو معروف لدى الصحفيين فإن الخبر الذي يقول إن كلباً عض شخصاً ليس بخبر. أما إذا عض شخص كلباً فهو بلا شك خبر مثير. ومن سخرية القدر فإن هذه المعادلة الإعلامية أصبحت تنطبق إلى حد كبير على ما يجري في فلسطين والعراق إلى حد كبير. ولو كنت مكان مسئولي التحرير في وسائل الإعلام لتوقفت عن تقديم أخبار المجازر في العراق على أنها أخبار عاجلة، ولاكتفيت بعرضها كأخبار عادية بعد أن أصبحت أخبار القتل هي القاعدة وعدم القتل هي الاستثناء، فالخبر العاجل الحقيقي، حسب النظرية الإعلامية السيكولوجية آنفة الذكر، يجب أن يكون: "لم يُقتل أحد في العراق اليوم".