قبل أن تعلن القمة العربية في الرياض رسمياً عن إعادة إحياء جثة مبادرة السلام العربية المتوفية منذ 28/3/2002، طالبت وزيرة خارجية الكيان الصهيوني، تسيبي ليفني، الدول العربية بوضوح، حسب وسائل الإعلام في 12/3/2007، "بعدم انتظار تحقيق السلام لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل"!! فتطبيع العلاقات عند الكيان الصهيوني يأتي قبل "السلام"، وكشرط له...
وبعد تصريحات ليفني بشهر تقريباً شكلت القمة العربية لجاناً مهمتها الترويج للمبادرة العربية في الكيان الصهيوني، والاتصال بصناع القرار الصهاينة "لإقناعهم بها"، وهو ما يعني فعلياً إسقاط وتجاوز الشرط الأساسي الذي وضعته المبادرة العربية الميتة نفسها: التطبيع مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967! والنتيجة هي التخلي عن جوهر إستراتيجية المبادرة نفسها من بوابة تكتيك "حشد التأييد للمبادرة... ضمن الأطراف المعنية بعملية السلام"، كما جاء في متن قرار إعادة تفعيل المبادرة عام 2007!
ومن الملفت للنظر أن قرار إعادة تفعيل القرار الميت، والقرار الميت، غير مأسوفٍ عليه، كلاهما يتوجه "لحكومة إسرائيل والإسرائيليين جميعاً لقبول المبادرة العربية"، أي أنه فتح باباً جانبياً واسعاً لممارسة أوسع الاتصالات مع العدو الصهيوني. والدخول من هذا الباب الآن للاتصال بالكيان بذريعة تشكيل لجان – مفوضة من مؤسسة القمة نفسها - يعني عملياً أن تسيبي ليفني، بعد رايس، باتت تحدد مضمون المبادرة العربية ووتيرتها ومآلها وآليتها وتوجهها العام.
وكانت ليفني قد عبرت أيضاً عن اعتراضها على ذكر القرار 194 المتعلق بحق اللاجئين بالعودة، في المبادرة العربية، وعلى البند المتعلق برفض التوطين. والحقيقة أن هذين البندين بالذات صيغا بالضبط بطريقة تفسح المجال لشطب حق العودة ولقبول التوطين. ولنلاحظ الصياغة بالتحديد في مبادرة القرار المدفون منذ عام 2002: "التوصل لحل عادل لمشكلة اللاجئين يتفق عليه ... وفقاً للقرار 194"، وفي القرار الجديد لعام 2007، الذي يؤكد القديم، جاء النص: "التوصل لحل عادل لمشكلة اللاجئين... وفقاً للقرار 194".
النقطة هي أن القرار 194 هو مجرد منطلق لحل ما لمشكلة اللاجئين يتم التوصل إليه أو الاتفاق عليه بين الأطراف المعنية... فالحديث في المبادرة، ولتسمع حماس جيداً، ليس عن تطبيق حق العودة، بل عن جعل القرار 194 إحدى مرجعيات النقاش.
وبالمناسبة، ليس هناك شيء مقدس في القرار 194 الذي رفضته الدول العربية والاشتراكية عندما تم التصويت عليه وتمريره من الدول الغربية وحلفائها في 11/12/1948، في أعقاب النكبة بأشهر، ليثبت مكاسب الحركة الصهيونية على الأرض ويطرح فكرة الوساطة الدولية والتفاوض على حل سلمي وإقامة علاقات بين الأطراف الخ... وحق العودة على أساس إنساني (وبشرط عدم النضال من أجل تحرير فلسطين في حالة العودة) كجزرة لقبول جوهر القرار.
وعلى كل حال، لم يصدر قرار دولي يوماً بصدد القضية الفلسطينية إلا ليخدم الحركة الصهيونية، ولا يختلف عن ذلك القرار 194، وغيره. ولا يهم ذلك قط، في الواقع، لأن حق العودة لا ينبثق أصلاً من سفاهة "الشرعية الدولية" أو "الشرعية الرسمية العربية" بل من الحق العربي التاريخي بأرض فلسطين، ولتذهب كل قرارات ما يسمى "الشرعية الدولية" إلى الجحيم مع المتمسكين بها. فالشرعية الدولية لم تقم يوماً إلا بقوننة المكاسب الصهيونية على الأرض، وبفتح الآفاق أمامها لمراكمة مكاسب إستراتيجية جديدة. وعندما تصبح الجزرة التي قدمت للعرب في مرحلة إستراتيجية سابقة عائقاً أمام التقدم اللاحق للمشروع الصهيوني، يصبح مطلوباً تجاوزها، كما حدث منذ اليوم الأول لبند حق العودة في القرار 194، بينما تم الدفع باتجاه تبني النظام الرسمي العربي لروح القرار 194 بالنسبة للتفاوض والوساطة الدولية والحل السلمي... فالقرار 194 نفسه يحتوي بذور تجاوز حق العودة، في الشكل والمضمون والتوقيت السياسي والجهات التي تبنته.
أما البند الأخر في المبادرة العربية الذي لم يعجب تسيبي ليفني فهو ذاك المتعلق برفض التوطين. ولننظر لذلك البند كما جاء في قرار القمة العربية في بيروت في 28/3/2002: "رفض كل أشكال التوطين الفلسطيني الذي يتنافى والوضع الخاص في البلدان العربية المضيفة". إذن، ليس كل التوطين مرفوضاً من حيث المبدأ، بل فقط ذاك المتنافي والوضع الخاص لبعض الدول العربية... كلبنان... وهذا منطقي، فإجهاض حق العودة يعني القبول بالتوطين بالضرورة لأن اللاجئين الذين لا يعودون لا بد من توطينهم، كما جاء في المادة الثامنة من معاهدة وادي عربة مثلاً، التي تنص على توطين اللاجئين.
الخلاصة، في 15/5 من كل عام تأتي ذكرى اغتصاب فلسطين... لا أقل. فإذا زار حاكم عربي الكنيست مثلاً قرب ذلك التاريخ، إذا صحت مزاعم بعض وسائل الإعلام، فإنه عندها لا يمارس التطبيع المجاني قبل "السلام" الموهوم فحسب، ولا يخطو خطوة تطبيعية لم يسبقه إليها سوى السادات لولا غطاء القمة العربية، ولا يفتح أبواب التوطين على مصراعيها فقط، بل يحدث شرخاً في علاقته بالأمة لا يمكن أن يندمل مع مرور الزمن. إن خطوة كهذه لن تسجلها الذاكرة الجمعية للأمة إلا كاستفزاز، غير لائق أو مجدي، لأعمق مشاعرها، وكخطوة مرفوضة، بالمطلق...