هل حان للمدافع أن تصمت؟ هل استوفت الولاياتالمتحدة وإسرائيل شروطهما السياسية الاستراتيجية للوقف الدائم لإطلاق النار؟ وهذا الجانب السياسي الاستراتيجي من الحرب هل ضاقت الفجوة الواسعة بينه وبين جانبها الميداني؟ ليس من إجابات واقعية عن تلك الأسئلة سوى الإجابات التي يتأكَّد من خلالها أنَّ الحرب يجب أن تستمر وتشتد وتعنف، وما كل هذا النشاط الدبلوماسي للولايات المتحدة، في مجلس الأمن الدولي وفي خارجه، سوى وسيلة لمدِّ الحرب بمزيد من الوقت.
إذا لم يقترن وقف إطلاق النار بما يُجرِّد "حزب الله" من حججه للاستمرار في المقاومة العسكرية، والتي لا يمكنها إلا أن تلقى قبولا لبنانيا واسعا يكفي "الحزب" ولبنان شرَّ "انفجار داخلي"، فإنَّ كل حديث عن وقف الحرب يغدو أقرب إلى الخرافة السياسية منه إلى الواقعية السياسية. ولكم أن تتخيَّلوا حدوث هذا الاقتران الآن، فكيف ستبدو الحال الميدانية للجيش الإسرائيلي وهو يغادر جنوب لبنان إلى ما وراء "الخط الأزرق"، مُسلِّما ما احتله من مواقع لقوة "اليونيفيل" حتى تقوم بنقل السيطرة عليها لنحو 15 ألف جندي لبناني أبدت الحكومة اللبنانية استعدادها لإرسالهم إلى الجنوب بعد، وليس قبل، "الانسحاب الإسرائيلي". تخيَّلوا ذلك لتدركوا كم هو متعذَّر أن تقبل إسرائيل "الانسحاب" الآن. لو قبلت لَظَهَرَ وتأكَّد للقاصي والداني فشلها العسكري الميداني البري، فما هي تلك المواقع التي احتلتها في جنوب لبنان، والتي ستقوم بتسليمها لقوة "اليونيفيل"؟! هل ستُسلِّم قوة "اليونيفيل" تلَّة هنا، وتلَّة هناك؟! إنَّها يكفي أن تقوم بذلك حتى تقيم الدليل بنفسها على أنها قد فشلت عسكريا فشلا لا يمكن تمييزه من الهزيمة.
قوة الردع الإسرائيلية أُصيبت إصابة شبه قاتلة، فهل تعرفون متى؟ عندما لم تجرؤ إسرائيل على ضرب عاصمة لبنان، بيروت، فالأمين العام ل "حزب الله" حسن نصر الله تحَّداها، في خطابه الأخير، أن تضرب بيروت، مقرِّرا في وضوح ما بعده وضوح معادلة جديدة للردع هي "تل أبيب في مقابل بيروت". قبل خطابه بيوم أو يومين أعلنت أنها تفكِّر في ضرب بيروت؛ ولكنها بعد الخطاب نسيت الأمر كله، مؤكِّدة للعالم، بالتالي، أنَّ قوة الردع التي امتلكتها زمنا طويلا، والتي أخضعت بها خصومها من غير أن تضطر إلى خوض حرب، أصبحت أثرا بعد عين. اولمرت أعلن، وما زال يعلن، أنَّ الجيش الإسرائيلي دمَّر كل البنية التحتية ل "حزب الله"، وقضى على الجزء الأعظم من ترسانته الصاروخية"، فما الذي يمنع جيشه من تنفيذ تهديده بضرب بيروت؟!
نصر الله اقترح عليهم وقفا متبادَلاً متزامناً لضرب المدنيين والمنشآت والمواقع المدنية، والاكتفاء بخوض "حرب نظيفة" بين مقاتليه وجيش اولمرت بيريتس، فلِمَ رفضوا هذا الاقتراح؟!
رفضوه لسبب بسيط هو أنَّ "الحرب النظيفة" تلك لن تمكِّنهم من إحراز انتصارات ميدانية يمكن تحويلها إلى انتصارات سياسية يُعتد بها، وقد تمكًَّن "حزب الله". رفضوه؛ لأنَّ "الحرب النظيفة" تلك توسِّع، ولا تضييق، الفجوة بين "جنوب لبنان" و"الشرق الأوسط الجديد"، ففيها، وبها، لن يُوْلَد (الشرق الأوسط الجديد) أبدا، وإنْ وُلِدَ فسوف يُوْلَد ميتا.
إنَّهم لا يملكون من خيار سوى "الحرب القذرة"، أي الاستمرار في حرب تَعْدِل "جرائم الحرب"، وكأنَّهم يريدون ل "حزب الله"، وللبنان، ولِمَن بقي من عرب، الاستسلام في نموذجه الياباني. إنَّهم يريدون ل "الجريمة"، وليس ل "الحرب"، أن تكون امتدادا ل "السياسة". ولأنَّهم في هزيمتهم كمثل مَنْ يأبى الاعتراف بموت عزيز له قبل دفنه، انتقلوا في الحرب الجريمة من "قتل الأحياء" إلى "قتل الموتى"، فها هي طائراتهم الحربية مع قنابلها الذكية تضرب حتى الجنائز لعلَّ الموتى يصرخون: "إنَّكم حقا الجيش الذي لا يُقهر!".
ولكن، ما هي أخبار وفد "الترويكا" العربية الذي خرج ولم يَعُد، ويُقال إنَّه "ضاع" في نيويورك؟ أُرجِّح أن يرجع بخُفيِّيْ حُنيْن، بعد أن يخاطب إسرائيل من هناك قائلا: "لقد تجرأتم على لبنان الصغير، وأمعنتم في تدميره وقتل بنيه، فَلْتُحاولوا أن تتجرأوا علينا لنريكم، عندئذٍ، أي رجال نحن!".