انتقل الصراع العربي-"الاسرائيلي" من مرحلة إنكار اغتصاب أرض فلسطين وتهجير أهلها إلى التسليم بحق هذا الكيان في الوجود،عبر سلسلة من المفاوضات والأحداث الضاغطة نتيجة اختلال موازيين القوى لصالح المحتل بدون وجه حق ولا مبرر سوى انتزاع فلسطين من خارطة الوطن العربي، بإنشاء مؤسسة عسكرية قائمة على التفوق والدعم الدولي وحرية العدوان والتوسع. مما لاشك فيه أن الاتفاقيات المبرمة أضافت مزيداً من التداعيات على صعيد القضية الفلسطينية برمتها، وترحيل حل الأزمة إلى إدارتها دائماً بشكل مؤقت، وهذا نتيجة إنشاء سلطة محلية ليس من مهامها سوى تسيير الأمور الحياتية في المناطق الفلسطينيةالمحتلة عام 1967.أما الوعود السرابية المماطلة فلم تكن سوى نزع المزيد من التنازلات، وتنفيذ البند غير المعلن والمعمول به في تلك المفاوضات وهو حق "اسرائيل" في الحياة داخل حدود آمنة ومعترف بها، على أنها الجار المفروض بقوة السلاح كأمر واقع، مقابل ضمان حل لمشكلة اللاجئيين ومدينة القدس. ولم تكن "اسرائيل" في يوم من الأيام معنية بوثائق ومبادرات عربية ولا بقرارات دولية، ولم تقر بأهمية القضتين وشرعيتهما، بل اعتمدت على حلول التوطين والتعويض، كحل نهائي من أجل حل الدولتين، مع إبقاء أوضاع اللاجئيين على ما هي عليه من التشرد والمعاناة، فالأمر في نهاية المطاف ينتهى لصالح الكيان الصهيوني. إن دعوة أولمرت للفلسطينيين مؤخراً بالتخلي عن حق العودة تتزامن مع هدم جزء كبير من الحرم المقدسي وتهويد مدينة القدس، كعاصمة أبدية ل"إسرائيل"، وتصريح السيد عمرو موسى بأن المبادرة العربية غير قابلة للتعديل، تكشف أن رحلات رايس المكوكية ما هي إلا مزيداً من الضغط على الرئيس عباس، لإسقاط بند آخر من الثوابت الفلسطينية. ومما شجع على تنشيط الضغوطات، إنشغال السلطة المحلية بتشكيل حكومة، على أساس وعود بالاعتراف بدويلة فلسطينية مهشمة ومهمشة ومنزوعة السلاح ومحاصرة بجدر عازلة من جميع الجهات. هذا ما انتهت إليه طموحات القادة الفلسطينيين، مما يؤدي إلى إصدار اعتراف رسمي من القمة العربية المزمع عقدها في نهاية الشهر بالتطبيع الشامل مع الكيان "كدولة "وفق خريطة جديدة للوطن العربي، تشمل "اسرائيل"، ودون تحقيق أي منجز لحل نهائي عادل، وستبقى قضية اللاجئيين والقدس خاضعة للمد والجزر بالتأجيل والمماطلة في التحركات الدبلوماسية السياسية، بعد نبذ وإدانة مقاومة المحتل. في غياب تفعيل مؤسسة أو مظلة تمثل جميع مطالب الفلسطينيين ومستقلة عن السلطة المحلية للجبهة الداخلية، انكشفت الجبهة الفلسطينية الخارجية ودب العجز إزاء إحياء منظمة التحرير على أساس ميثاقها الأصلي. إن كنا نقرأ الأحداث بدقة ولا نحرك ساكناً، فهذه المرحلة تنبيء عن نكبة فلسطينية ثانية، خاصة وأن الموقف الصهيوني لم يتغير ويؤجل المباحثات بشأن العودة والقدس، لكون القضتين تمسان جوهر ووجود الكيان برمته، وتؤثران على التركيبة السكانية في فلسطين بقسميها "الإسرائيلي" والعربي. فعودة الفلسطينيين تعني تفوقاً سكانياً، مما يرجح القبول بتعويضهم أو توطينهم حيث هم، وهذا مرتبط ارتباطاً وثيقاً بشأن تعويضات أوربية للصهاينة عن الإبادات الجماعية التي قام بها النازيون، ولم تكن حصراً على الأقليات اليهودية، بقدر ما هي تنقية العرق الألماني من كل ما اعتبرته النازية العنصرية إعاقة لتحقيق الأمبراطورية الألمانية صاحبة العرق الأنقى والأفضل، كما ترتبط بتقديم تعويضات مالية لليهود العرب بعد انضمامهم ل"إسرائيل". وعند اعتبار قضية اللاجئيين قضية قابلة للحوار والتفاوض والتغيير، فإن الجهود ستتجه نحو تجنيس فلسطنيي المنافي وخاصة بلبنان وسوريا والأردن، والسعي لتحسين أوضاعهم المعيشية، وتذويبهم داخل المجتمعات، لتصبح قضيتهم ليست أكثر من أوضاع الهنود الحمر أو الأقليات الأخرى المنتشرة في العالم.هذه المساعي المشبوهة، تهدف إلى ابتزاز سياسي مقابل تلك الدويلة الفلسطينية العاقر، التي تحجم الثوابت والحقوق إلى مناطق الضفة وقطاع غزة. أما قضية القدس وما يجري فيها من عمليات هدم للحرم، وإعلان الشيخ الجليل رائد صلاح بضرورة التصدي للمؤامرة الصهيونية بشأن المدينة والحرم، فلم تجد دعوة المعتصميين والمرابطيين تجاوباً بمواقف عربية وإسلامية جادة وواضحة، لوقف هذا التوسع وإلغاء هوية المدينة المقدسة. من جهة أخرى، فالسلطة الفلسطينية ما عاد يشغل بالها وتكثيف جهودها سوى تأمين الراوتب وترتيب الوزارات، والتي لن تعترف بما يُسمى بالشرعية الدولية بالحكومة سوى بشخصيات وزارية معينة، تدعم مشروع الحل النهائي على حساب شقاء التشرد ومعاناة اللاجئيين الفلسلطينيين في المنافي، كثمن باهظ لتقبل إتفاق مكة. وبعد الإقرار دولياً بحق عودة ممن سُلبت ممتلكاتهم وأراضيهم، وتعويضهم جراء حرمانهم التعسفي من البقاء بفلسطين، لم ولن يتجاوب الاحتلال مع تلك المعاناة لأنه سببها المباشر. أما حلم الفلسطينيين بالعودة فسيبقى ذاكرة معلقة على جدارن الأمل بانتظار قافلة فرسان يحررون فلسطين من البحر إلى النهر، لا ركبان سفينة غرقى ومثقلة بهموم الحصار والتجويع، ومحاولات يائسة للتصديق بأن السياسة والحوار هما الملجأ لاستعادة الحق المغتصب. ولا يقر عقل ولا دين ولا ضمير إنساني أن تحل مجموعات مهاجرة، لتؤسس دولة على حساب تطهير الأرض من أهلها، والحقيقة العارية أنه كيان استعماري صهيوني احتلالي يسعى إلى الهيمنة على قلب الوطن العربي، ليتفرع وينتشر كالسرطان بموافقة الأنظمة العربية المتهالكة على توقيع معاهدات استسلام للإرادة والإدارة الأمرو- صهيونية. بعد انتزاع الاعتراف بهذا الكيان من قبل أصحاب القضية أنفسهم بأوسلو، استطاعوا أن يخترقوا جبهة الممانعة في العراق، ويحتلوه ويدمروه وفق سياسة تنفيذ الأرض المحروقة، وإخضاع لبنان للشروط العربية "المعتدلة" والدولية المتوغلة في الشؤون الداخلية للبنان باسم التحري عن حقيقة اغتيال الحريري، واستيراد القوات الدولية بحجة الفصل بين "اسرائيل" ولبنان، ولا نرى سوى اعتداءات مستمرة على أرضها وسمائها. فهذه القوات وبمختلف المسميات، ما هي إلا وضع قدم لاستكمال المشروع الذي بشرت به بومة الشؤم. ولا يبقى في ميدان الممانعة سوى سوريا، والضغوط مستمرة عليها بالتلويح بالمحكمة الدولية والتحقيق بشأن اغتيال الحريري، الذي لم يكن سوى ممر لإبعاد سوريا عن لبنان، وحشرها في خانة ضيقة للقبول بإعادة تقسيم البلاد العربية بشكل يريح الاحتلال ويثبت مشروعه باستباحة حقوق البشر وانتهاك الأرض المشتعلة.أما إخضاع الإرادة العربية فلن يتحقق كما يخطط له الإستعماريون، فالمقاومة ستستمر، ويستحيل إلغاء هوية وثقافة وإرث تاريخي لأمة بأكملها.