حين قلت لمسؤول أمريكي منحاز تماماً لإسرائيل، إلى حد تبرير مجازرها الإجرامية ضدّ العرب، «إن مفاهيمك عن سوريا مغلوطة تماماً ولا تمتّ إلى الواقع بصلة» قال لي : «من يأبه بالواقع، المهم هو المفهوم وقدرة الترويج لهذا المفهوم». ظننته حينذاك يعاني من خلل ما في التعبير، ولكنّ العبارة صعقتني ولم تغادر ذهني منذ سنوات. وهاأنذا اليوم أراقب بلداناً عربية وإسلامية تتحكم بسياساتها ومواقفها مفاهيم خطيرة يصدّرها أعداؤها لها دون أن تتمكن من وعي مصدر وخطورة هذه المفاهيم على أمنها ومصالحها، وتبدو عاجزة عن إنقاذ نفسها من هذه المفاهيم والعودة إلى مرجعياتها الأصلية التي تضمن مصلحتها وتعيد لها مكانتها واحترامها في بلدان العالم. ومن خلال مقارنة بسيطة لما يتمّ ترويجه عن لبنان وفلسطين والعراق والسودان نلاحظ المفارقات الصارخة التي تعرّي أصحابها عن أي منطق أو هدف حميد وتثبت، دون أدنى شكّ، أنّ سلّة متناقضة من المفاهيم المذهبية والإثنية والشخصية تستخدم كيفما اتفق ظاهرياً، ولكن وفق خطة سياسية من أجل إضعاف العرب والمسلمين جميعاً والإيقاع بهم وخلق الفتنة والاقتتال بينهم، وتمكين إسرائيل من التفرّغ للمضيّ قدماً في تحقيق حلمها بإقامة إمبراطورية تمتد من النيل إلى الفرات، حرباً أو سلماً، وجعل القدس عاصمة لها وحدها، وهدم المسجد الأقصى، وتوسيع الاستيطان كيفما تشاء، وابتلاع حقوق اللاجئين باسم تطبيق قرارات الرباعية أو إيجاد حلول للقضية الفلسطينية تباركها بعض الدول. وهذا بحدّ ذاته يهدف إلى فتح باب التطبيع مع إسرائيل دون أن تعيد للعرب ذرة تراب واحدة أو تنفّذ أياً من القرارات الدولية التي تضمن للشعب الفلسطيني دولته المستقلة وتعيد الأراضي العربية المحتلة إلى أصحابها الشرعيين.
وقد وصل الحال إلى أماكن لم نكن نتخيلها قبل سنوات، إذ يطالب حاكم عربي من خلال الأممالمتحدة بإقرار محكمة دولية ضدّ بلاده على أساس الفصل السابع، وبترسيم حدود بلاده دون أن يكون للبلد صوت أو رأي أو حضور، كما تقوم حكومة بمصادرة سلاح المقاومة التي تحمي كرامة الوطن ضدّ المعتدي، غير متّعظين مما حصل في العراق. كما يضطر الحديث بين الأخوة الواقعين جميعاً تحت بطش الاحتلال الإسرائيلي إلى الانتقال إلى مكّة لكي يتمكنوا من الحديث مع بعضهم، علماً أنهم جميعاً يتحدثون لغة عربية واحدة ولهم تاريخ مشترك ويدينون باللّه الواحد الأحد. وبين هذا وذاك نشاهد قتل الأطفال المستمرّ في العراق الذي أصبح ساحة لأكثر من مئة شركة من المرتزقة تعبث به قتلاً وبطشاً وإرهاباً، وإزاحة الشعب الفلسطيني عن أرضه والعجز عن استئناف الحياة الطبيعية اللائقة في لبنان، وتفتيت السودان، واحتلال الصومال، فما الذي جرى للعرب؟!! وكيف يمكن العودة بهم إلى رشدهم بحيث لا يضطر من يمتلكون الحميّة والعزّة أن يحموا باب المغاربة للمسجد الأقصى بصدورهم العارية، بينما ينشغل الأخوة بحوار كان يجب أن يكون محسوماً منذ عقود لو أن العمل قد أنجز لوضع المعايير الوطنية الحقيقية الواحدة للجميع. وهنا لا بأس من إجراء المقارنة مع أعدائنا الذين ينتمون لبلدان وحضارات وطبقات وجنسيات مختلفة قبل أن يتفقوا جميعاً على سلب فلسطين من أبنائها، ونلاحظ أنهم، وحيثما كانوا، ودون انتظار تعليمات من أحد، يعتبر كل واحد منهم نفسه مسؤولاً عن كلّ ما يجري وكلّ ما قد يمسّ مصلحة دولته المعتدية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، ما أن وصفت رايس، دون قصد منها، حركة حماس كحركة مقاومة إلى أن انبرى مورت كلاين، رئيس المنظمة الصهيونية في الولاياتالمتحدة، وطالب وزيرة الخارجية الأمريكية بتقديم اعتذار رسمي وتصحيح الخطأ الذي ارتكبته، على حدّ رأيه، حين استخدمت عبارة«حركة المقاومة حماس» بينما لايطالب أي مسؤول عربي بأي اعتذار من مسؤول غربي إذا اتهم أمته أو شعبه أو دينه بالإرهاب أو العنف أو التطرف! وهذا يدعوني، من جانب آخر، أن الفت النظر إلى اقتراح قدمته في زاويتي هذه منذ سنوات أن تتخلى كلّ حركات المقاومة والتحرير الفلسطينية عن الأسماء الطويلة والمعقدة التي وضعتها لنفسها، وأن توحّد على الأقل التسمية لتكون كلها «حركة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي». بالغاً، وبإيحاء هذه الأسماء، والانطباع الذي تتركه لدى الآخر، فلا أعلم لماذا يقصّرون بتسميات لها انعكاسات حقيقية على وجودهم وحقوقهم وموقفهم من المعتدين والمغتصبين!
ولكن الحقّ يقال، لا بد قبل أن يجد العرب الوقت والصفاء الذهني للتفكير في الأثر الذي يمكن أن يتركوه على الآخر من أجل احترام وتأييد حقوقهم، أن يتفقوا أولاً على سقف الوطن ومعنى المواطنية وأن تكون المواطنية والتمسك بالحقوق والأرض هي المعايير الحقيقية لتوصيف الناس ولوضعهم في المكان الذي يستحقون في حياتهم وبعد مماتهم. أما الآن فالأوراق مخلوطة تماماً ومشوشة، حيث يتجرأ العميل على الشهيد الذي روى تراب الوطن بدمائه الطاهرة إيماناً منه بحقوق وطنه وشعبه، وحيث ينظّر بعض العرب المتأمركين أنّ الوطن ليس حجاراً وتراباً بل حيث يجد المرء نفسه، تاركين العدوّ يغتصب تراب بلدانهم، وحيث يلقى العدوّ الذي يتجرأ على مقدساتنا الدعم من الأشقاء باسم المرونة واستجداء الحلول، والتي دون شك لم ولن تجدي نفعاً، حتى وإن تمّ تمريرها والتوقيع عليها، في احتفالات تذّكر بتوقيعات واحتفالات سابقة أجهضها شارون واستمرّ في السياسات الإستراتيجية من احتلال واستيطان وقهر وقتل وخطف وأسر وتعذيب. والسبب في هذا التشويش أيضاً هو فقدان الجرأة لدى الكثيرين على قول الحقيقة، مهما كان الثمن، ومراعاة الخواطر والمجاملات والمصالح الشخصية، حتى على حساب المصلحة الوطنية العليا، وربما بسبب اعتقاد خاطئ أنه لا يمكن لصوت أو فرد أن يغيّر شيئاً. أوَليس الشعب هو في المحصلة مجموعة هذه الأصوات والأفراد؟ أوَليست الأمة في النهاية هي الإطار السياسي والاجتماعي والحضاري لكلّ هذه الأصوات والأفراد؟
إن ما لم يعمل العرب على تطويره بعد حروب الاستقلال هو آليات العمل الوطنية والمعيار الوطني الأساسي مع آليات للمراجعة والمحاسبة والتدقيق. وما زال الكثيرون يعملون من منظور شخصي معتمدين على الشائعة أو القدرة الترويجية لأنفسهم، بغضّ النظر عن صوابية هذه الرؤية وتوافقها مع المصلحة الوطنية العليا. وإذا كنا ننتقد من يستهدفنا فمن الحكمة أن نتعلم منهم أيضاً نجاعة أساليبهم التي توصلهم إلى تحقيق أهدافهم ضدّنا. فرغم كلّ الديمقراطية التي يتغنى بها الكثيرون في الولاياتالمتحدة فإن أحداً لا يجرؤ على التناغم مع أعداء الحكومة الأمريكية، خاصةً في حالة الحرب، لئلا يربك عمل هذه الحكومة أو يؤثر على انجازها لأهدافها. وقد شاهدنا مقابلات مع وزراء دفاع وخارجية ورؤساء سابقين يتحدثون بشكل بناء وهادف حتى وإن كانت مواقفهم معارضة تماماً لما تقوم به الحكومة الحالية. والأكثر من ذلك أنه حتى الرؤساء الأمريكيين السابقين لا يتمكنون من زيارة بلد ما دون إذن من الحكومة الحالية، لئلا تتعارض أعمالهم مع المصلحة القومية العليا، والتي عهد بها في الحاضر للحكومة القائمة على عملها. كلّ هذا مفاده أنّ المعيار الذي تم تبنيه هو المصلحة القومية العليا، وهذا هو المعيار الذي يتنافس ويختلف في خدمته الجمهوريون والديمقراطيون في الكونغرس ومجلس النواب وفي أي حلقة أخرى من حلقات الحكم والسياسة.
أما في العالم العربي فأنت تسمع أسماء أصبحت تؤمن، بفضل التغرير بها من قبل أعدائها، أنها فوق الأوطان وفوق المصالح الوطنية وأنها تدخل التاريخ من بابه العريض من خلال تعاونها مع العدو الاستراتيجي، وكأنها لا تتذكر كم تمّ تضخيم شخصيات قبلها فقط لكي تؤدي الدور المرسوم لها ومن ثمّ يلقى بها في الحفرة. والشواهد كثيرة في الماضي القريب والحاضر، كي لا نذهب للماضي البعيد. إن ما يعاني منه العالم العربي اليوم من خلافات وانقسامات وتناقض ولاءات يعود إلى حقيقة بسيطة مفادها أن النظام العربي السياسي لم يضع المعايير الأساسية الصارمة التي تضع المصلحة الوطنية والقومية العليا في موضع القدسية المطلقة وتحاسب وتحاكم من يتواطأ عليها ويلحق الضرر بها. في غياب هذا المعيار سهل على أعدائنا تعويم المفاهيم المشوّهة عن العرب وحقوقهم ومقاومتهم في كل أنحاء الأرض بحيث لم يعد يأبه أحد بحقوقهم ومصالحم ومعاناتهم، ولا بشهدائهم وكرامتهم وأطفالهم ونسائهم، فمتى يأبه العرب أنفسهم بواقعهم وينكبّون على وضع المرجعيات الصحيحة وطنياً وأخلاقياً وسياسياً لتكون البوصلة التي ترشدهم إلى برّ الأمان والحرية!؟ حينذاك فقط نصبح أمه يحسب لها حساب ونتوقف عن توكيل صدور عارية لمواجهة جرافات وقنابل وصواريخ احتلال بغيض يستهدفنا جميعاً، بينما ينشغل بعض المؤتمنين على الأوطان بالتخلّي عنها أو استقدام المحتلّين إليها بذرائع مختلفة. حين نتوقف عن الصمت على من يتواطأ مع العدو ضدّ مصالحنا المصيرية ومصالح أجيالنا المستقبلية تحت أي مسمّيات كانت ونسمّي الأشياء والأشخاص بمسمّياتها، مهما كان الثّمن، حينذاك فقط سيأبه الداني والقاصي بالواقع العربي وسيتطابق المفهوم مع الواقع ونصبح أمّة يُحسب لها حساب.