أي شعب،اي بلد يُبجل الأمان الجسدي فوق القيم الأخري سيتخلي في نهاية المطاف عن حريته و يوافق علي أي صلاحية استولت عليها السلطة مقابل الوعد بالأمان المطلق. لكن الأمان المطلق وهمي،يُبتغي و لكنه لا يُنال أبدا. و ابتغاؤه يحط من قيمة أولئك الذين يسعون وراءه إضافة إلي اي أمة تصبح معًرفة به. كانت هذه أهم الكلمات التي حواها كتاب لا مكان للأختباء للمحامي و الصحفي جلين جرينوالد الذي عُرف بكتاباته المعارضة لسياسات التنصت و المراقبة الغير القانونية التي انتهجتها الولاياتالمتحدة و وكالاتها الاستخباراتية بعد الحادي عشر من سبتمبر بأمر مباشر من الرئيس الأمريكي وقتها جورج بوش. أقوى أجهزة الإستخبارات في العالم خلال ال 20 عاماً الأخيرة جرينوالد،و الذي أمضي جزءاً من حياته محاميا ثم مدوناً فصحفيا في الجارديان كشف عن أكذوبة الحرية و الخصوصية التي لطالما تشدقت بها الولاياتالمتحدة و شركات الانترنت الكبري.. ففي الجزء الأول من كتابه يشرح جرينوالد اتصال إدوارد سنودن به و كشفه عن الأختراقات الأمنية المتعددة التي قامت بها وكالة الأمن القومي NSA بزعم حماية المواطنين الأمريكيين من مخاطر الإرهاب. من هو إدوارد سنودن؟ هو موظف أمريكي سابق بوكالة الأمن القومي،بدأ حياته كمهندس أنظمة ،و نتيجة لموهبته التكنولوجية انتقل الي منصب خبير تقني في CIA و سافر الي سويسرا تحت غطاء دبلوماسي ليعمل خبير امني معلوماتي الأعلي للوكالة،و بفضل إمكانية ولوجه إلي أسرار الوكالة بدأ في الإرتياب و الشك في أفعال حكومته. في 2009 بدأ سنودن في التفكير في تسريب معلومات تفضح أنشطة الوكالة و لكنه تراجع قليلاً لظنه أن أنتخاب أوباما قد يغير الأمور و أتضح له لاحقاً أن اوباما زاد من عمليات المراقبة و ضاعف التمويل أكثر كي تستمر الوكالة و تتوسع في عملياتها. من خلال عمله في الوكالة و لاحقا كمتعاقد خارجي مع شركة DELL استطاع سنودن الحصول علي كمية هائلة من الوثائق التي تدين المنظومة الأمنية الأمريكية كاملة منها.. الأمر السري من محكمة FISA (محكمة قانون مراقبة الاستخبارات الخارجية السرية) الذي يُرغم فيريزون ، و هي إحدي أكبر شركات الهواتف في أمريكا،علي تسليم جميع السجلات الهاتفية الخاصة بجميع الأمريكيين إلي NSA. برنامج “مخبر بلا حدود – Limitless informant” و هو برنامج تابع NSA مصمم لقياس كمية أنشطة المراقبة اليومية التي كانت الوكالة تقوم بها،في فبراير عام 2013 بيّنت أحدي الوثائق ان الوكالة جمعت أكثر من ثلاثة مليارات عينة من بيانات الاتصالات من أنظمة الاتصالات الأمريكية وحدها. نماذج لبرامج اخري تابعة للوكالة PRISM متعلق بجمع البيانات من مخدمات اكبر شركات الانترنت في العالم بشكل مباشر. Project bullrun جهد مشترك بين NSA و نظيرتها البريطانية GCHQ” “مركز الاتصالات الحكومية” للتغلب علي انواع التشفير الشائعة و المستخدمة لحماية التعاملات علي الانترنت. Egotistical giraffe يستهدف المستعرض المعني بتمكين السرية في تصفح الشبكة Muscular اداة لغزو الشبكات الخاصة في جوجل و ياهو . TARMAC برنامج طوره مركز الاتصالات الحكومية البريطاني لاعتراض اتصالات الاقمار الصناعية. Tempora و هو برنامج طوره مركز الاتصالات الحكومية البريطاني،يمتلك البرنامج القدره علي مراقبة كميات ضخمة من البيانات المأخوذة من كابلات الالياف البصرية لمدة تصل الي 30 يوما كي يكون بالإمكان تحليلها. X-KEYSCORE هو برنامج رئيسي تستخدمه NSA لجمع كافة المعلومات حول ما يفعله المستخدم العادي علي الانترنت ،بما فيه ذلك محتوي الايميلات،البحث في جوجل،اسماء المواقع التي تم زيارتها و وقت حدوثها،تواريخ البحث و المحادثات عبر الانترنت. من اهم وظائف هذا البرنامج قيمةً هو مراقبة الانشطة علي وسائل التواصل الاجتماعي كفيسبوك و تويتر،فيكفي لأحد المحللين ادخال اسم المستخدم المُراد مراقبته اضافة الي المجال الزمني كي يستعرض كل المعلومات المتعلقة بهذا المستخدم. Thieving Mgpie و هو برنامج طوره GCHQ يستهدف الأتصالات التي تجري علي متن الطائرات في الجو . تتمن البيانات التفصيلية الهاتفية التي تتعقبها الوكالة معلومات شاملة حول وجهة الاتصالات بما في ذلك،رقما هاتفي المتصل و المتصل به،رقم هوية مشترك الهاتف المحمول الدولية IMSI و رقم معدات محطة الموبايل الدولية IMEI و ارقام بطاقة الاتصال الهاتفي و وقت الاتصال و مدته. تعتمد NSA مبدأ “تجميع كل شئ – “Collect it all” ، ففي 2012 كانت الوكالة تعالج اكثر من 20 مليار اتصال (من الانترنت و الهاتف معا) من حول العالم يوميا. لا يقتصر الأمر علي ابتكار برمجيات تسمح بالتنصت فقط،ففي 2010 وصف رئيس قسم تطوير الوصول و الهدف في NSA ان الوكالة تستقبل موجهات و مخدمات حاسوبية مرسلة من الولاياتالمتحدة الي زبائنها حول العالم.. ثم تزرع فيها الوكالة أدوات مراقبة سرية – beacon و تعيد تغليف الأجهزة مع ختم المصنع و بهذا تكسب إمكانية الوصول الي شبكات بإكملها و جميع مستخدميها. من اجل جمع هذه الكمية الهائلة من المعلومات،تعتمد NSA علي عدد من الوسائل تتضمن التنصت المباشر الي خطوط الالياف البصرية (بما فيها الكابلات تحت الماء) المستخدمة لنقل الاتصالات الدولية و توجيه الرسائل الي مستودعات بيانات NSA عند عبورها النظام الامريكي،الاقمار الصناعية،انظمة الهواتف المحلية و الاجنبية،و التعاون مع وكالات استخباراتية في بلدان اخري. تقوم NSA ايضا بزرع برامج خبيثة – Malware تُدعي “Quantom insertion”،وظيفتها الاساسية هي رؤية كل مفتاح يُنقر و كل شاشة تُعرض، يمتلك قسم الوصول المخصّص “TAO” كامل السيطرة علي تلك العملية و تمثل تلك الوحدة قسم القرصنة الخاصة . تمتلك NSA عددا كبيرا من الشراكات مع شركات القطاع الخاص،كما ان عددا من وظائفها الجوهرية يقوم بها متعاقدون خارجيون،توظف الوكالة نفسها ما يقرب من ثلاثين الف شخص و تتعاقد مع ستين الف موظف من شركات خاصة و تُدار هذه العمليات من قبل وحدة سرية تُدعي وحدة عمليات الموارد الخاصة SSO. هذا التوسع البالغ في شدته من جانب NSA لم يكن موجودا قبل تولي الجنرال ” الكسندر كيث ” مسؤوليتها لمدة ثماني سنوات لتصبح وحشا مطلق السراح دون ادني قيد،بدأ الكسندر مهمته من العراق حيث ركز علي جمع كل تفصيلة صغيرة.. كل رسالة نصية و كل اتصال هاتفي و كل ايميل عراقي يمكن فحصه،ثم ما لبث ان طبق اسلوبه علي الشعب الامريكي نفسه. كون “الكسندر” حلفا يُدعي “العيون الخمس” مع اربع دول هم: بريطانيا ،كندا،استراليا ،نيوزيلندا لتبادل المعلومات فيما بينهم. الملفات التي سربها سنودن تنقسم الي قسمين.. الاول يتم تعليمه برمز “FVEY” اي يُسمَح بتوزيعها فقط لدول المراقبة الاربعة. الثاني يتم تعليمه برمز “NOFORN” و هي ملفات خاصة بالولاياتالمتحدة فقط. و بالرغم من المراقبة الواسعة التي سعت إليها NSA فعملياتها لم تمنع تفجير ماراثون بوسطن عام 2012 ،و لم تمنع الهجمات من لندن إلي مدريد مما يثبت عدم جدواه بالشكل الذي تدعيه الوكالة. بالطبع بعد صدور سلسلة المقالات الكاشفة في الجارديان انفجرت حملة إعلامية زاعقة ضد سنودن تتهمه بالخيانة و بتسريب تلك الوثائق إلي الصين و روسيا و غيرها من الاتهامات التي كالها مدّعي الوطنية الزائفة.. أما جرينوالد فطالب البعض بمحاكمته منهم زملاؤه الصحفيين و الاعلاميين في قنبلة تنسف مواد الدستور الأمريكي التي تكفل الحرية للصحفيين لنشر أسرار حكومية و تهدم الصحافة الأستقصائية من أساسها مع أزدياد نشاط أدارة أوباما ضد الصحفيين الكاشفيين لأخطاء رهيبة في سياساته. أما رد الفعل في بريطانيا فكان أعنف ضد الجارديان،ففي بريطانيا لا توجد موانع دستورية تحول دون إغلاق الصحف او إجبارها علي عدم نشر مواضيع معينة،بعد نشر المقالات بأيام استقبلت الجارديان عددا من رجال الأمن السريين و أجبروا الصحيفة علي تدمير ما تملكه من وثائق مخزنة علي أقراص صلبة و احتجزوا “ديفيد ميراندا”، أحد العاملين علي القصة في مطار هيثرو بتهمة “الإرهاب” و أُطلق سراحه بعدها بساعات في محاولة لتخويف جرينوالد و الجارديان معا . الكتاب بتفاصيله يمثّل إضافة جيدة للقارئ و يترك أحساساً بالضآلة في مقدمته لدي مواجهة أجهزة عاتية كهذه،و هذا هو ما أراده سنودن تحديدا، أن يُعلمّنا أننا لسنا بضعفاء،و انه ربما في يوم من الأيام قد ننال الحرية الحقيقية،حيث لا يوجد “الأخ الأكبر” ليراقب كل ما نراه و نفعله،لتُتاح لنا حرية الفكر و الفعل و الإبداع.