ربما أعرب البعض عن دهشته، لأن إسرائيل - التي تتفوق في قدراتها العسكرية على الدول العربية مجتمعة - تزعم أنها تتعرض لتهديد خطير من سوريا. فالجمبع يعرف أن سوريا تحاول منذ حرب يونيو عام 1967 قبل 39 عاما - دون جدوى - استرداد هضبة الجولان الاستراتيجية التي تحتلها إسرائيل من أراضيها. وتتعرض سوريا - بسبب رفضها عقد اتفاق سلام منفرد مع الدولة الصهيونية - لضغوط هائلة من حلفاء إسرائيل الغربيين، وعلى رأسهم الولاياتالمتحدة الأميركية؛ تشمل حصارا اقتصاديا وعسكريا، ورقابة مخابراتية لقدراتها ووارداتها التسليحية، إضافة إلى محاولات متواصلة لزعزعة استقرار نظام الحكم فيها بكل الأساليب والذرائع الممكنة. إذا كانت هذه الدهشة ليس لها ما يبررها، فإنه يمكن فهم ذلك في ضوء حقيقة أن إسرائيل قضت 33 يوما في حملة شرسة على لبنان، دون تدخل لمساندة ذلك البلد العربي الصغير الضعيف، من جانب دول عربية أكبر وأقوى - منها سورية نفسها - التي تزعم الدولة الصهيونية أنها تهددها. وحقيقة الأمر، هي أن إسرائيل - التي تيقنت من أن سوريا تتفادى خوض معركة عسكرية معها، وتحاول تهدئة الأوضاع في المنطقة حفاظا على استقرار نظام الحكم فيها، وعقد نوع من الهدنة البراغماتية مع الولاياتالمتحدة الأميركية، يمكن الانقضاض عليها في هذه الظروف. والهدف من ذلك هو تحقيق انتصارعسكري سريع وحاسم، ضد جيش عربي محدود القدرات، لدولة في موقف الدفاع - عسكريا وسياسيا - منذ سنوات طويلة. ما تفعله إسرائيل حاليا، هو اللجوء مجددا إلى حجة قديمة ممجوجة، ظلت تستخدمها منذ اغتصابها أول قطعة من أرض فلسطين قبل 59 عاما، لتبرير عدوانها على الشعب الفلسطيني والدول العربية الأخرى - خاصة المجاورة - بحجة تعرضها للتهديد، وحاجتها إلى شن عمليات استباقية وقائية للدفاع عن أمنها. يتعلل بعض الخبراء العسكريين الصهاينة بالتقدم الذي حققته القوات السورية ضد إسرائيل خلال اليومين الأولين من حرب أكتوبر عام 1973، وهم - في هذا السياق يتناسون مجموعة من الحقائق المهمة؛ ففي تلك الظروف كانت الحرب ضد إسرائيل من قوات مصر وسوريا في وقت واحد، وفرض ذلك على الصهاينة تقسيم قواتهم للعمل على جبهتين، على عكس ما تقضي به وثائقهم العسكرية. أما الآن، فإن مصر لا تخوض حربا ضد إسرائيل إلى جانب أي طرف عربي آخر، وما جرى في حرب لبنان الأخيرة أوضح شاهد على ذلك. ومن ثم تنتفي الحجة الإسرائيلية. والغريب في الأمر، هو أن تلك التسريبات - التي تتضمن تهديدات ضمنية - تأتي في وقت صرح فيه الرئيس السوري بشار الأسد بأنه " يريد سلاما مع إسرائيل، وإذا ما تلاشى الأمل في هذا السلام، فإن الحرب ربما تكون السبيل الوحيد " ، وربما كان مقصد الأسد من وراء ذلك أن الحرب ستكون هي السبيل الوحيد لتحرير الأراضي السورية المحتلة. لكن إسرائيل لا تريد سلاما يعيد الأراضي المحتلة إلى أصحابها، أويحقق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، إذا لم يسهم في تنفيذ مخططها للاستيلاء على أكبر قدر من أراضي الشعب الفلسطيني - إن لم تستطع تهويدها بالكامل - إضافة إلى فرض هيمنتها على الدول العربية الأخرى لاختراقها، بتنسيق مع حليفها الاستيراتيجي الأميركي، لتأمين مصالح الغرب في المنطقة. في هذا السياق، يمكن القول أن إسرائيل - التي فشلت بالحرب في هزيمة المقاومة اللبنانية، وتناور الآن من خلال الأممالمتحدة لنزع سلاحها وتحجيم دورها - تعمل أيضا من خلال تهديد سوريا، لحرمان المقاومة اللبنانية من الدعم الذي تقدمه لها دمشق - سواء كان ماديا أوعسكريا، أو في الحدود السياسية والإعلامية فقط - لكي تمكن الأطراف اللبنانية التي تخاصمها العداء من إكمال المهمة التي قشلت هي في تحقيقها. إضافة إلى الضغط من أجل محاصرة بعض فصائل المقاومة الفلسطينية - الرافضة لأي مشروع سلام لاترى أنه يعيد لشعبها حقوقه الكاملة - ولم يعد لها مكان مناسب للتواجد إلا في دمشق. وفوق هذا كله، فإن الصهاينة - وهم يرون سوريا في حالة عزلة وتعاني من الإحساس بالتهديد - يصعدون ضغطهم عليها، للاستفادة من ذلك في المساومة من أجل الصفقة الكبرى. ويمكن فهم المنطق الإسرائيلي في التفاوض من موقع القوة، وحرمان الأطراف الأخرى من أي مصدر قوة محتمل، في ضوء استمرار حديثهم عن احتمالات العداء المتوقعة من جانب مصر، رغم أن حكومتها وقعت مع إسرائيل اتفاق سلام في عام 1979 والتزمت به، رغم أن هناك تقارير تتجاهلها أجهزة الإعلام العربية، تفيد أن الطائرات الإسرائيلية المقاتلة تحترق الأجواء " الصديقة " - أي الدول العربية التي في حالة سلام فعلي مع إسرائيل - وليس الأجواء اللبنانية فقط، ليشكل ذلك تذكيرا دائما للجميع، بأن السلام مع إسرائيل أصبح فرضا عليهم، والتراجع عنه يعني تحمل تبعات " وخيمة ". وبطبيعة الحال، فإن الضغط على سوريا الآن يهدف إلى التوصل إلى إنجاز آخر على صعيد مخطط السلام الصهيوني ، سواء أمكن تحقيق ذلك عن طريق الحرب أوالمفاوضات، لكن لأن السبيل الوحيد لإنجاز ذلك هو بإحداث فرقة في صفوف القوى الرافضة لمشروع السلام الصهيوني، فإن الضغط من أجل استقطاب سوريا إلى " حظيرة " ذلك المشروع، يتضمن أيضا ضرب التحالف السوري - الإيراني، مما يعني كسر حلقة مهمة في التواصل بين مصدر الدعم في طهران، وبين متلقيه وموقع الاستفادة به في بيروت، إلى جانب حرمان بعض فصائل المقاومة الفلسطينية من ملجئها الآمن في دمشق، وإجبارها على الخروج إلى حيث يسهل على الصهاينة وحلفاؤهم ملاحقتها، وفرض الاستسلام عليها مثل غيرها. وإلى جانب ذلك كله، فإن تحقيق إنجاز إسرائيلي من هذا النوع، سيوفر مخرجا لحكومة أيهود أولميرت من المأزق الذي ورطت نفسها فيه في حرب ال 33 يوما في لبنان، ويمكنها من استعادة الشعبية التي فقدتها بسبب الهزيمة التي لحقت بها على يد أبطال حزب الله، وهذا ما تهدف إليه المناورات السياسية والدبلوماسية، التي تأتي في إطارها الجولة الحالية لوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في المنطقة.