ليس من شك أن قلوب المسلمين تهفو في هذه العشر الأوائل من ذي الحجة إلى فرج قريب، بل تنتظر فرجا كبيرا وإن كانت أسبابه موجوده إلا أنها غائبة عن كثيرين منا، ولما كان الفرج مرتبط دائما بآل إبراهيم وتاريخهم، فسنحاول أن نستخلص العبرة هنا، فلماذا كان انتظار الفرج والتمكين مرتبط بآل إبراهيم عليهم السلام في تاريخ الإسلام، الذي ارتبط هو رغم قدمه على إبراهيم بأنه ملة إبراهيم (ملة أبيكم ابراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل). في أول الأمر يجب أن نتذكر أنه لم يرتفع ذكر عائلة من بني أدم كما ارتفع ذكر آل إبراهيم عليه السلام، ولم ينال النبوة والصديقية والخلة مع الرحمن إلا آل إبراهيم عليهم السلام، ولم يرث أحد النبوة كما ورثوها، ولم يبقى من وحي السماء إلا ما نزل على آل ابراهيم عليهم السلام، ولم تذكر تفاصيل حياة عائلة كاملة في الوحي كما ذكرت حياة آل إبراهيم عليه السلام، وما ارتفع مقام كان يقيم فيه أحد أكثر من ارتفاع مقام آل إبراهيم عليهم السلام، وما عظمت أعمال أحد كما عظمت أعمال بيت ابراهيم عليه السلم، فلماذا؟ لأنه بمنتهي الايجاز : لم تنل عائلة ابتلاء عائلة ابراهيم عليه السلام ونكتفي هنا بابتلاء البيت الصغير (ابراهيم وهاجر وإسماعيل) ففي مقدمة العائلة رب البيت نفسه عليه السلام، فقد ابتلي بالنمرود فولد سرا ورُبي متخفيا، وما أفظع شخصية النمرود وما أشد تكبره: (أنا أحي وأميت) وكان عمه كاهن النمرود فلا مفر من أن يفرض عليه دين النمرود المتكبر إلا أن إبراهيم قاوم هذا الالزام الغاشم بأطيب الكلام(وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربّي شقياً))، ثم كسر الأصنام ومن يكسر أصنام النمرود يجب أن يحرق بأقوى النيران، فيقبل موفيا لربه ويخرج سالما، ويهاجر في سبيل رسالته بلا مال ولا آل، وهو في حال من الوفاء مع الله (الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين) وينتظر مائة عام حتى يأتيه الولد، وقد ولدته جاريته هاجر التي آمنت به نبيا ويخرج بها مهاجرا ثم يتركها بلا مأوى ولا جيران في صحراء جرداء فتقول: ألله أمرك بهذا فيقول نعم فترد بيقين المؤمن (لن يضيعنا) وتصبر حتى يزمزم الماء ثم يبلغ الولد السعي، فيأتي المهاجر لا لينعم بالزوجة والولد بل لأنه الأمر قد جاءه مناما أن اذبح ولدك. (يا بني أني أرى في المنام أني أذبحك) جملة كلها حنان ورقة مع ولده الشاب الذي يرجو نفعه، لكنه سيفعل وفاء وتسليما لسيده ومولاه الذي يعبده. فيرد الولد ذو اليقين الموروث من أم لا مثيل لها إلا في بيت إبراهيم، فقد ربت الولد وهي تحكي له معجزات أبيه وقصة زمزم ماثلة أمامه، وأورثته طريق النبوة قبل أن تعلم باصطفاء مولاه له، وأنه هو نفسه نبي، بل سيكون صديقا نبيا، فقال في وقار وتحبب (يا أبتِ) وفي ثبات ورضى بمن أرسل أباه رسولا( افعل ما تؤمر) وفي جلد ويقين(ستجدني إن شاء الله من الصابرين). ونالت هاجر من الابتلاء ما نال الوالد والولد فهي أم للولد الوحيد المحبوب والذي لم تأخذ عليه عيبا قط والذي لم يعش بين كنف أبيه، إنما كان تحت تربيتها وحدها إلا قليلا من حضور أبيه المهاجر وعند مجيئ الأب المهاجر جاء ليذبح فلذة كبدها وسلوها عن المهاجر الحبيب والمعلم الأريب، فيأتي اللعين يقول لها أتقبلين أن يذبح ( إسماعيل، إسماعيل وحيدك، إسماعيل النجيب النبيل) فترجمه كما فعل الشيخ والولد به من قبل. وابتلي الله ابراهيم بكلمات الرسالة (فأتمهن) وقد حقق الوفاء آل إبراهيم (الذي وفي) بما ابتلاه الله به، وما كان من الرب الرحيم إلا أن أرسل الأمين جبريل ب(فديناه بذبح عظيم) وجاء الأمر بتخليد أعمال الثلاثة (الأب والأم والابن) فرفع إبراهيم مع اسماعيل القواعد ليروم الناس إلى البيت، ورجم المسلمون الشيطان الرجيم بما رجمه إبراهيم عند الكبرى وبما رجمه إسماعيل عند الوسطى وعند الصغرى رجم المسلمون ما رجمت هاجر التي ظلت زمزمها تحتج على من لا يؤمن إلا بالمعجزة المادية وبأن الإسلام معجزة باقية. فلما فتشت في سبب خلود أعمال آل إبراهيم في الدنيا وجدتها في صفات ثلاث: - الوفاء الذي عاشه ابراهيم لربه مع محن الصغر اليسيرة على الشاب النبي (نمرود والنار والهجرة) ومحن الكبر الصعبة على الشيخ الرسول (الإقدام على ترك الولد والزوجة بلا مؤنة وأمن ثم الإقدام على ذبح البكر برؤيا منام) - اليقين الذي لم تزعزعه الوحدة في صحراء شاسعة ولا الخوف من الجوع والعطش في بيداء قاحلة، واعسر منها أن تقبل ذبح الابن البار الشاب الخلوق، ذو النجابة والأخلاق. - الصبر للولد الذي بلغ مبلغ الشباب وأمامه متع الحياة وقبوله من والد لم يراه إلا قليلا أن يحقق رؤياه بمجرد علمه أن رؤيا الأب أمر إلهي. ثم لما أبصرت هذه الصفات وما أثمرته عند آل إبراهيم طمعت (كاتب هذه السطور) في كرم من تكرم على أبينا إسماعيل وأنجاه في هذه الأيام من الذبح أن ينجينا من القهر ورؤية ذبح أخوتنا في (سوريا ومصر والعراق وفلسطين والصومال وغيرها) وأن تكون محنتنا التي عشناها في رابعة والغوطة وغزة نجاة لبقية أمتنا كما كانت محنة هاجر وصبرها نجاة لبني ولدها إسماعيل. ثم طمعت في كرم الجواد القدير أن تكون هذه الأيام ليس فقط نجاة بل فرجا وتمكينا كما حدث مع آل بيت سيدنا إبراهيم عليهم السلام. ثم ازددت طمعا في العزيز العليم أن لا يكون مجرد تمكين عادي (نصر من الانتصارات) بل فتح عظيم يسعد به كل مسلم على الأرض وتفتح به قلوب غير المسلمين للإسلام. ثم ازداد رجائي في مغفرة البر الرحيم وأن يغفر لنا ولمن أساء إلينا من المسلمين وأن يألف بين قلوب المؤمنين جميعا حتى ننافس جيل الصحابة في الفوز بالجنان وبرضا الرحمن.