ساعات وأيام ثقيلة مرّت على قطاع غزة، تحت وطأة حمم القاذفات الإسرائيلية التي انطلقت بعد ساعات من تهديد وزيرة الكيان الصهيوني تسيبي ليفني من القاهرة، بتغيير الوضع في قطاع غزة وإنهاء حكم حماس هناك. طبيعة العدوان على غزة، ذكرنا بحرب تموز (يوليو) عام 2006 على لبنان من عدة زوايا أهمها: أولاً: كثافة القصف الصهيوني على المؤسسات المدنية، والبنى التحتية كأهداف مكشوفة لطائرات الاحتلال الإسرائيلي. ثانياً: خروج فريق داخلي (ممثلاً بالسلطة) بتحميل المقاومة مسؤولية العدوان الصهيوني، مما منح الاحتلال مبررات استمرار العدوان. ثالثاً: خروج فريق إقليمي (مصر وبعض الدول العربية المستترة..) يمنح الاحتلال الغطاء والمظلة السياسية لمزيد من العدوان والاستهداف للمقاومة والمدنيين، بذريعة رفضهم التخلي عن خيار المقاومة ورفض تجديد التهدئة في ظل استمرار الحصار على غزة والعدوان على الضفة. رابعاً: غطاء أمريكي صارخ للعدوان الصهيوني، وموقف دولي متواطئ. تلك الملامح تقودنا إلى وجود سيناريو (دولي، إقليمي، محلي) يعيد تكرار نفسه باستهداف المقاومة ولكن هذه المرّة في غزة. فلماذا الآن تستهدف غزة بمدنييها وبمقاومتها المتمثلة في حركة حماس وجميع الفصائل الفلسطينية التي ما زالت تتمسك بالبندقية؟ ما الذي طرأ حتى تقع غزة تحت النار والقصف الصهيوني الهمجي المفاجئ الذي لم يفرق بين المدنيين العزل والمقاومة المسلحة، والذي لم يفرق بين مقار الشرطة، والمساجد، ومستودعات الأدوية، إلى حد استهداف مباني الجامعة الإسلامية في غزة، ذلك الصرح العلمي الذي طالما تفاخرت به فلسطين؟ المؤتمر الصحافي في القاهرة (28/12/2008) لوزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط والرئيس محمود عباس كشف جزءاً من الحقيقة..، بأن حماس تُعاقَب لأنها رفضت تجديد التهدئة بشروط مذلة..، وما لم يقله أبو الغيط بأن حماس تعاقب أيضاً لأنها رفضت تمديد الولاية للرئيس عباس حسب الرغبة المصرية قبل التوصل إلى توافق فلسطيني على جميع الملفات السياسية الداخلية المختلف عليها، وذلك عندما رفضت حماس وبعض الفصائل الأخرى الدعوة المصرية للحوار نهاية الشهر الماضي، الأمر الذي أغضب القيادة المصرية ودفعها على لسان وزيرها عمر سليمان حسب بعض المصادر الصحافية إلى تهديد قيادة حركة حماس، وتوعدها بالعقاب.. إذن الواقع في غزة يفيد، بأن هناك سيناريوهاً عسكرياً متدحرجاً يستهدف القطاع بكل مكوناته، يسعى إلى نتيجة مفادها: إما الخضوع لشروط الاحتلال والرباعية الدولية من اعتراف بالكيان الإسرائيلي، ومن نبذ للمقاومة والسير في ركب المطبعين والمفاوضين اللاهثين وراء سراب السلام المزعوم، وإما الدمار والاقتلاع من الجذور.
والجزء الأول من المعادلة هو ما كانت تسعى إليه القيادة المصرية والرئاسة الفلسطينية بتأييد أمريكي إسرائيلي، باستمرار التهدئة والتمديد لها على قاعدة المقاومة مقابل الغذاء وإلى الأبد، الأمر الذي كان يعني جمود المشهد الفلسطيني المقاوم وخاصة في غزة، لإتاحة الفرصة لمسار التسوية العابث لأن يبقى هو سيد الموقف، وهو ما يعفي النظام العربي الرسمي من استحقاقات الواجب تجاه القضية الفلسطينية، وهو ما يمنحها أيضاً رضاً أمريكياً من البوابة الإسرائيلية، من أجل 'شرعية' مزيفة بعيداً عن إرادة شعوبها المغلوبة على أمرها. عندما فشل هذا الأمر، انتقل القوم إلى الجزء الآخر من المعادلة وهو العدوان لقلع المقاومة من أحضان مؤيديها وشعبها الذي ينكَّل به الآن عقاباً له على تأييده واحتضانه للمقاومة وعقاباً له على تلاحمه معها رغم الحصار الجائر الذي طال كل مناحي الحياة..، وهذا ما يفسر سقوط العدد الكبير من المدنيين خلال الأيام الماضية. الأيام القليلة القادمة ستشهد المزيد من مظاهر العدوان الوحشي على قطاع غزة، والصورة ستكون مؤلمة لكل صاحب ضمير حي، إلا من بعض النظم العربية التي باركت لإسرائيل فعلتها وأوصتها بالمزيد لإخضاع المقاومة ولكسر إرادة الشعب الفلسطيني، وذلك على ذمة ما أوردته القناة العاشرة في الكيان الصهيوني. غزة الآن أصبحت رمزاً فلسطينياً وعربياً مقاوماً يراد له الانكسار، وما زالت المعركة رغم شدتها في بدايتها، والمقاومة ما زالت رابطة الجأش وفي انتظار ساعة المواجهة على الأرض مع الجيش الصهيوني المتخوف من تكرار مشهد الهزيمة التي تجرعها في جنوب لبنان، لأنه يعلم أن سلاح الطيران لم ولن يحسم المعركة مع المقاومة الفلسطينية المتسلحة بإرادة المواجهة والانتقام لدماء الشهداء والأطفال الرضع الذين سقطوا جراء العدوان والحصار.