خلال الأشهر الأخيرة، حصلت وزارة الدفاع المصرية على امتياز عدة عقود من وزارات: الصحة والنقل والإسكان والشباب، تتجاوز قيمتها المليار دولار؛ وذلك لتنفيذ مشاريع البنية التحتية العملاقة. وقد برر مجلس الوزراء المصري تفضيله للجيش على الشركات الخاصة لتنفيذ هذه المشاريع – والتي تتمثل في بناء الطرق السريعة الجديدة وبناء مساكن لذوي الدخل المنخفض وتجديد المستشفيات العامة ومراكز الشباب – على أساس الكفاءة والانضباط التي يتمتع بهما الجيش في تنفيذ المشاريع. إن تكليف الجيش بمشاريع البنية التحتية المحلية ليس سلوكًا جديدًا من السلطات المصرية. ولكن تجدد دور الجيش في الشؤون الداخلية للبلاد وخاصة منذ الإطاحة بالرئيس محمد مرسي في يوليو من عام 2013، وتنصيب عبد الفتاح السيسي رئيسًا للبلاد في يونيو 2014، فضلاً عن العديد من التدابير القانونية الأخيرة، قد أثار تساؤلات كبيرة حول الدور التجاري الذي يمارسه الجيش. والذي يمثل أهمية خاصة هو عدد العقود الرئيسة الجديدة التي أبرمت مع دولة الإمارات العربية المتحدة؛ حيث تعزز هذه الاتفاقيات التي تبلغ مليارات الدولارات الاتجاه المثير للجدل حول دور الجيش المصري في الشؤون الاقتصادية المدنية في مصر. المؤسسات التجارية التابعة للجيش تقليديًّا، نظر المصريون إلى المؤسسة العسكرية بتقدير عالٍ كرمز للفخر الوطني والقوة الإقليمية. ومع ذلك، وبعيدًا عن دوره كحارس للدولة، استثمر الجيش المصري على مدى عقود في المشاريع الصناعية التي تقوم بتصنيع كل من المعدات العسكرية والمدنية. وهناك ثمة ثلاث مؤسسات اقتصادية متخصصة، تدار فروعها بمعرفة وزارة الدفاع، تلعب دورًا مباشرًا في المشاريع الاقتصادية المحلية للجيش: 1- جهاز مشروعات الخدمة الوطنية أنشئ جهاز مشروعات الخدمة الوطنية في عام 1979، بهدف مساعدة الجيش المصري على تجنب الاعتماد على سوق القطاع الخاص للحصول على البضائع. وقد أنشأ هذا الكيان شركات يسيطر عليها الجيش، وتستثمر في قطاعات مختلفة من الاقتصاد المحلي. يسرد موقع الجهاز حاليًّا أسماء عشر شركات تعمل تحت مظلته، وتغطي مجموعة واسعة من القطاعات بدءًا من الزراعة وصولاً إلى البناء ومرورًا بالمنتجات الغذائية ومنتجات الألبان. وعندما تتجاوز كميات أي من السلع التي تنتجها هذه الشركات احتياجات الجيش تباع في الاقتصاد المحلي كجزء من التزام الجيش ب “المسؤولية الاجتماعية”. 2- الهيئة العربية للتصنيع أنشأت كل من مصر والمملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة الهيئة العربية للتصنيع عام 1975، في محاولة لتدشين اتفاقية الدفاع العربي المشترك. ولكن بعد أن وقعت مصر معاهدة سلام مع إسرائيل عام 1979، انسحبت الدول العربية الأخرى منها، وأصبحت مصر المالك الوحيد للمشروع. تركز الهيئة على توفير احتياجات معدات الدفاع للقوات المسلحة المصرية، وتستخدم القدرات الفائضة لدعم مشاريع التنمية المجتمعية في مجالات البنية التحتية وحماية البيئة والنقل. وتدير الهيئة أحد عشر مصنعًا في جميع أنحاء مصر، والتي تنتج المعدات العسكرية والمدنية، ولها العديد من المشاريع الدولية المشتركة مع الدول الأوروبية وأمريكا والتكتلات الآسيوية. 3- الهيئة القومية للإنتاج الحربي تدير وزارة الإنتاج الحربي الهيئة القومية للإنتاج الحربي. وتلك الهيئة تدير أكثر من خمسة عشر مصنعًا تنتج الأسلحة والذخيرة العسكرية بشكل أساسي، بالإضافة إلى بعض السلع المدنية مثل الإلكترونيات والمعدات الرياضية. في مايو عام 2014، قال مدير الهيئة الهندسية للقوات المسلحة أن الجيش قد نفذ 473 مشروعًا استراتيجيًّا وخدميًّا في السنة والنصف الماضية. وتلقي قائمة من المشاريع الوطنية التي نفذها الجيش الضوء على مجموعة واسعة من الصناعات التي تغطيها تلك المشاريع. تشمل هذه المشاريع بناء الطرق والجسور والموانئ، وترميم المستشفيات والمدارس ومراكز الشباب، ومد أنابيب المياه وبناء محطات لتحلية المياه. ولم تقتصر الصفقات التجارية للجيش على المستوى الوطني بل توسعت لتشمل أيضًا شراكات مع شركات أجنبية مثل جنرال الكتريك وشركة لوكهيد مارتن وميتسوبيشي، وغيرها. وبعيدًا عن المعدات العسكرية، تغطي هذه المشاريع الدولية المنتجات غير العسكرية مثل أجهزة التلفزيون وسيارات الجيب وأجهزة الكمبيوتر اللوحي. علاقات عميقة مع الإمارات العربية المتحدة من بين كل شركائها الدوليين، تمتعت مصر تقليديًّا بعلاقات اقتصادية قوية مع دولة الإمارات العربية المتحدة. وليس من المستغرب إذن أن هذه الدولة الخليجية مثلت قوة دعم كبيرة للموجة الجديدة من النشاط الاقتصادي للجيش المصري. في النصف الأول من عام 2014، وقع الجيش المصري عقود اثنين من مشاريع الإسكان مع شركات إماراتية، وذلك بشكل منفصل عن عمليات التمويل الكبيرة التي تعهدت حكومة الإمارات العربية المتحدة بتقديمها كمساعدات لمصر. تم تأمين المشروع الأول في فبراير الماضي، عندما وقعت شركة إعمار مصر، وهي شركة تابعة لشركة إعمار العقارية التي يقع مقرها في الإمارات العربية المتحدة، اتفاقية مع وزارتي الدفاع والإسكان والتنمية المحلية لبناء إعمار سكوير، كجزء من مشروع الإسكان أب تاون كايرو. وتنطوي الصفقة على نقل معسكرات الجيش ورفع مستوى البنية التحتية في المنطقة. في شهر مارس الماضي، أعقب هذا الاتفاق توقيع عقود مشروع الإسكان الثاني الخاص بمحدودي الدخل الذي تبلغ تكلفته 40 مليار دولار مع شركة بناء إماراتية أخرى هي أرابتك؛ حيث تنطوي الصفقة على بناء مليون شقة تغطي 160 مليون متر مربع (1722 مليون قدم مربع) عبر ثلاثة عشر موقعًا في مصر. بالإضافة إلى ذلك، وقعت الحكومة المصرية ودولة الإمارات العربية المتحدة على اتفاقية منحة في أكتوبر 2013، والتي بموجبها ستمول دولة الإمارات العربية المتحدة مشاريع التنمية المتعددة في مصر. يعهد الاتفاق على وجه التحديد إلى وزارة الدفاع للإشراف على بناء وتنفيذ عدد من هذه المشاريع الحيوية. تقدر هذه المنحة بمليارات الدولارات من المساعدات الاقتصادية والتنموية (المبلغ الإجمالي وقائمة المشاريع غير محددين في إشعار الصفقة المنشور في طبعة الإنترنت من الجريدة الرسمية في مصر). العدالة والمساءلة إن إحدى المشكلات التي أثارها دور الجيش المصري الواسع في النواحي التجارية المحلية، هي عدالة توزيع المشاريع في مواجهة القطاع الخاص. فالأصول الصناعية والاقتصادية التابعة للجيش ليس لها مثيل لدى أي كيان مصري آخر. الجيش هو أكبر مستأمن على الأراضي الحكومية في البلاد. وقد أعطى مرسوم رئاسي عام 1997 الجيش الحق في إدارة جميع الأراضي غير الزراعية غير المستغلة، والتي تشير التقديرات إلى أنها تبلغ حوالي 87% من مساحة البلاد. إن لدى الجيش القدرة على استخدام المجندين كأيد عاملة رخيصة. وأرباحه معفاة من الضرائب ومتطلبات الترخيص التجاري وفقًا للمادة 47 لسنة 2005 من قانون ضريبة الدخل في مصر. بالإضافة إلى ذلك، تنص المادة 1 من قانون صادر عام 1986 بشأن الإعفاءات الجمركية أن واردات وزارة الدفاع ووزارة الدولة للإنتاج الحربي معفاة من أي ضريبة. كل هذه العوامل تعطي مزايا كبيرة للجيش المصري في أنشطته التجارية، مما يجعل من الصعب على كل من الشركات المملوكة للدولة والقطاع الخاص المنافسة. أحد مصادر القلق الأخرى هو مستوى المراقبة التي يخضع لها الجيش أمام الشعب. فالحصول على المعلومات الأساسية حول نطاق المجمع العسكري الصناعي في مصر أمر صعب للغاية. تشير تقديرات الباحثين المستقلين أن الحصة التي يسيطر عليها الجيش من الاقتصاد الوطني تتراوح بين 5% و40%. وأثناء مقابلة مع رويترز في 15 مايو 2014، حاول مرشح الرئاسة آنذاك عبد الفتاح السيسي التهوين من مثل هذه التكهنات، مؤكدًا أن “هناك حديثًا دائرًا يفيد بأن الجيش يملك 40% من الاقتصاد. وهذا ليس صحيحًا. فالنسبة لا تتجاوز اثنين في المئة “. ومؤخرًا، أثار تعديلان تشريعيان وقانون جديد صادرة كلها عن السلطة التنفيذية، في غياب برلمان منتخب، القلق بشأن النزاهة والمساءلة للحكومة المصرية، وبوجه خاص الجيش. في مايو 2011، عدل المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم آنذاك قانون القضاء العسكري. وأضاف المجلس العسكري بندًا يعطي فقط المدعين العسكريين والقضاة العسكريين الحق في التحقيق في الكسب غير المشروع مع ضباط الجيش، حتى لو بدأ التحقيق بعد التقاعد. وهذا يحميهم بشكل فعال من أي محاكمة في ظل نظام مدني. في سبتمبر عام 2013، أصدر عدلي منصور الرئيس المؤقت بعد الإطاحة بمرسي، مرسومًا لتعديل قانون عام 1998 بشأن المناقصات العامة والمزايدات، مما يسمح للمسئولين الحكوميين بتخطي إجراءات إقامة مناقصة عامة في الحالات “العاجلة”. ويسمح التعديل برفع قيمة الخدمات أو الممتلكات التي يمكن للمسؤولين في الدولة شراءها وبيعها بالأمر المباشر. وليس من الواضح ما إذا كان الجيش قد استفاد من هذا البند في صفقاته الأخيرة، على الرغم من أن الأساس القانوني لمثل هذه المكاسب موجود. في أبريل عام 2014، وافقت الحكومة على قانون يقيد حق طرف ثالث في الطعن على العقود التجارية والعقارية الموقعة مع الدولة. هذا الحق محجوز الآن للحكومة والمؤسسات المشاركة في الصفقة والشركاء التجاريين. وعلى الرغم من أن الحكومة بررت سن هذا القانون كوسيلة لتشجيع الاستثمار الأجنبي، فقد يؤدي إلى تقليص الرقابة والمساءلة بشكل كبير. علاوة على ذلك، تثير ثلاثة عقود حديثة أبرمها جهاز مشروعات الخدمة الوطنية من أجل بناء طرق سريعة جديدة مخاوفًا إضافية حيال المساءلة. تنص هذه الاتفاقات الموقعة بين وزارتي النقل والدفاع على أن الشركة التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية المسؤولة عن إنشاء وتطوير وإدارة الطرق ستعمل على بناء وإدارة وتأجير اثنين من الطرق لمدة تسعة وتسعين عامًا، والثالث لمدة خمسين عامًا. في المقابل، فإن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية سيدفع حوالي 843،000 دولار سنويًّا للحكومة. وقد أبرمت هذه الصفقات بعد صدور القانون المعدل على المناقصات، بما يوضح أن الجيش يستفيد بالفعل من هذه التغيرات، وسوف يكون محصنًا من أي طعن على هذه الصفقات. النظر للمستقبل بانتقال مصر نحو مرحلة سياسية جديدة، والتي يبدو أن الجيش يستعد بمقتضاها للعب دور أوسع في الشؤون الداخلية، فإن القضايا الأساسية للعدالة والمساءلة الخاصة بالأنشطة الاقتصادية للجيش تأخذ أهمية متجددة. ونظرًا للحاجة الملحة للإصلاحات الاقتصادية التي يمكنها إطلاق أنشطة جديدة للقطاع الخاص المصري، فإن أي مزاحمة من ناحية الجيش للقطاع الخاص سوف تسبب خيبة أمل. ونظرًا لتوق الجمهور الشديد للمساءلة والشفافية الحكومية عمومًا، فإن الأنشطة الاقتصادية التابعة للجيش التي تفلت من الرقابة العامة قد تزيد من الإحباط العام وخيبة الأمل.