كل عام وانتم بخير في هذا الشهر الفضيل الذي جعله الله سبحانه وتعالى طقس عبادة وتذكر في الوقت ذاته. فمن حكمة شهر الصوم ان يتذكر الصائم في نهار رمضان ما يعانيه الفقراء والمساكين الذين لا يجدون قوت يومهم في الأيام العادية فيدفعه ذلك للتصدق من ماله في رمضان وغير رمضان. ومن فوائد شهر الصوم ايضا انه يهذب النفس فترق لأحوال العباد وتجعل الانسان اكثر اهتماما بأحوال غيره من باب المؤازرة والتعاون. وان كانت بعض العادات صبغت الشهر الفضيل بانفاق مبذر واسراف في طعام وشراب في وقت الفطور إلى السحور، فإن ذلك ليس من الحكمة بمكان بل وربما يجعل المرء لا يستفيد تماما من رمضان صحيا ونفسيا ناهيك عن التعبد والطاعة. فشهر رمضان شهر راحة لاعضاء الجسم التي تعمل على الطعام والشراب طوال العام، بتخفيف عملها إلى حد ما عبر افطار خفيف وسحور اخف وصلاة قيام في الليل وعمل كالمعتاد في النهار بما يفيد الجسم عمليا. اما بالنسبة للروح، فإن تخمة الطعام تقلل من سموها ورهافتها كما هو متوقع في شهر رمضان الفضيل. وما احوجنا حقا لرهافة النفس هذه لنتدبر قليلا في امر اخوان لنا في الدين والوطن والانسانية عامة. فها هو رمضان يأتي وهناك اخوة لنا في قطاع غزة لا يجدون ما يقيم اودهم وسط حصار رهيب منذ اكثر من عام فرضه عليهم المحتل الغاصب وساهم فيه العالم ومعه العرب والمسلمون للأسف الشديد. كما ان بقية الفلسطينيين في الضفة ليسوا بأحسن حال من اهل غزة، خاصة في المدن المحاصرة والمخنوقة باستمرار كنابلس وجنين والخليل وغيرها. وشهر الصوم مناسبة لتذكر الملايين من اخواننا الفلسطينيين الذين يحتاجون دعمنا، ليس المادي فقط بل والمعنوي ايضا. كما ان رمضان يأتي هذا العام والملايين من شعب العراق الناس العاديين وليس السياسيين وتابعيهم على حال لم يتحسن منذ الاحتلال وما قبله، وكثير منهم لم يعد حتى يستطيع ان يترك بلده إلى دول الجوار او غيرها. هذا الشعب العراقي الاصيل، الذي طالما احتضن العرب والمسلمين ايام كان له بلد يملك الثروة والقوة، لا يستحق ما صار اليه حاله ولعل في شهر الصيام فرصة لتدبر اوضاع العراقيين والتفكير فيما يمكن عمله لمؤازرتهم واعانتهم على ما ابتلوا به. وجاء شهر الصوم الفضيل ومعظم بلادنا تعاني من مشاكل جمة، من بلد عربي تمزقه الحروب بين اطرافه وبلد آخر يعاني من صراع مسلح بين السلطة وبعض ابنائه وغير ذلك من مشاكل وازمات تزداد او تقل حدة في هذا البلد او ذاك. ربما يكون احد الايجابيات ان الشهر الفضيل جاء وبعض بلاد النفط والغاز لا تزال تتحصل على عوائد جيدة، رغم تراجع اسعار النفط قليلا مؤخرا، وقد ادى ذلك إلى استثمارات بينية في المنطقة افادت معظم دولها، حتى تلك التي تعاني من ارتفاع اسعار الطاقة لأنها تستوردها. كما ان رمضان هذا العام يأتي في وقت تشتد فيه حدة التضخم في معظم دول المنطقة، اسوة ببقية العالم، ولعل في ذلك ايضا عبرة تجعل الناس يقتصدون قليلا في الانفاق غير الضروري ولا يساعدون على دوران عجلة التضخم بأسرع مما هي عليه إلى ان تنفرج الازمة الاقتصادية الحالية في العالم ونحن جزء منه الان. كما ان العالم كله، ونحن جزء منه، يشهد تغيرات مناخية واضحة تتبدى في ارتفاع درجات الحرارة عن معدلاتها وهبوطها عن معدلاتها في اوقات العام المختلفة وفي اركان الارض المختلفة. ويواجه كافة البشر، بدرجات متفاوتة، ازمة ارتفاع اسعار الغذاء والحاجات الاساسية بشكل غير مسبوق. وكلها مشاكل للانسان دور فيها بقدر او باخر، ولعل في التامل خلال الصيام ما يجعل المرء يهتدي إلى سبل تخفيف لتلك الازمات ولو على مستوى فردي او جماعي بسيط. القصد في النهاية ان شهر رمضان المبارك فرصة لتدبر احوال الناس حولنا فيما نحن نتعبد الله ونحن صائمون، فإن تذكر محن الناس ومآسيهم، وتدبر سبل اعانتهم عليها، جزء من خير هذا الشهر الفضيل. ولا يقتصر الأمر هنا على الأهل والأقارب وابناء الجماعة القريبة والوطن الواحد، او حتى العرب ولا فقط المسلمين من الصين وافغانستان والشيشان الى سواحل افريقيا واميركا اللاتينية، ولكن ايضا على كل البشر. فكل من يتعرض لمحن ومصاعب ويعاني ظلما وقهرا من بني البشر يستحق منا على الاقل الدعاء ان لم يكن الفعل بالمساعدة والاعانة قدر الامكان. ان التدبر في احوال الانسان في هذا الشهر الفضيل لهو تدريب روحي ونفسي يكمل فوائد الصوم الاخرى، إلى جانب اهميته العبادية اساسا كركن من اركان الاسلام. وتدريب الروح والنفس يكون اكثر فائدة مع تخفف الجسد من اعباء متطلباته التي نصوم عنها نهار رمضان، فما علينا الا الالتزام بتهذيب الجسد دون ان يقلل ذلك من الفرح بهذا الشهر الفضيل. وكل عام وانتم بخير، ورمضان مبارك.