لبعض الأحداث تأثير يتجاوز محيطها الجغرافي، فمنها ما يؤثر على الجيرة ومنها ما يؤثر على الإقليم ومنها ما يؤثر على الكون كله وهذ الأخير يمثل حدثا فاصلا يفصل ما قبله عما بعده، إن المتابع للمنحنى التصاعدي للأحداث في أوكرانيا قد يستشف أن لها ما بعدها وأن العالم الجديد سيتشكل على ضوءها، وليس بالضرورة أن يتشكل العالم عبر الحسم العسكري كالذي حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وإنما المرجح عندي أن العالم سيتشكل عبر التهديد والضغط العالي على الخصوم المستهدفين لإخضاعهم لأمر الواقع الذي ستفرضه روسيا، ولنحلل مركب واقع الأزمة الأوكرانية ينبغي أن نحدد اللاعبين الأساسين وأوراق كل منها: 1. الأوكرانيون المنقسمون، إن التنوع العرقي للأوكرانيين وتعارض التوجهات السياسية فيما بينهم وارتباطهم بقوى خارجية متنافرة وولاءهم لها أكثر من ولائهم لوطنهم إضافة إلى موقعهم الاستثنائي استراتيجيا لصراع الكبار أدخل الأوكرانيين مكرهين غير مخيرين في ظروف غاية في الصعوبة وفي مطبات لا يستطيعون إدارتها إمكانات وأدوات، إنهم وقعوا تحت رحمة صراع الكبار، إن هذه الظروف الاستثنائية جعلت الأوكرانيين يأتمرون بخارج حظيرتهم الوطنية فأصبحوا بها أحجارا على رقعة الشطرنج، إن النظام الحالي في كييف والمولود بولادة غير طبيعية يقع تحت ضغوط مميتة إنهم يرون وطنهم يتفكك أمام أعينهم ولا يملكون وسائل حفظه وحمايته، كما يقعون تحت ضغوط اقتصادية غاية في السوء وأوضاع اجتماعية ذات خلل بائن وسياسات داخلية وخارجية متضادة، إن المتابع لا يملك إلا أن يشفق لهؤلاء الذين يعملون تحت هذه الظروف الضاعظة، إنهم راهنوا على الغرب المصدوم في هذه المسألة فاقتربوا من خسارة الرهان، وكان من الممكن أن يسلكوا مسلكا آخر لو قرأوا جيدا المشهد كله قراءة المشفق على وطنه، فلو استقبلوا من أمرهم ما استدبروه، إن الأراضي الأوكراينة ستسقط جزءا جزءا من خلال سياسة الاستقطاع البطيئة التي تنتهجها روسيا كالموت البطيئ وستنتشر الفوضى في الأجزاء المتبقية إن وجدت، والجميل لدى السلطات الجديدة عدم الخوض في حرب معروفة النتائج سلفا مع روسيا وليس أمامهم خيارات كثيرة، نعم ليس أمامهم إلا أن يشاهدوا سقوط دولتهم جزءا جزءا أو قبول شروط روسيا التي تنتهي في النهاية إلى سقوط دولتهم أو ضياع سيادة دولتهم على الأقل، وهما خياران كلاهما مر. 2. الاتحاد الأوروبي، فالاتحاد الأوروبي تاريخيا عندما يجد نفسه أمام القضايا الخارجية الصعبة يضعف موقفه إلى حد كبير، لذا غالبا ما يتخذ محقا قرارات دون مستوى الحدث ثم يعطي لأعضائه حرية اتخاذ القرارات الفردية بناء على سياسة كل دولة على حدة، ومن الواضح أن ما عجز الاتحاد مواجهته أن تكون الدولة العضو أعجز، لهذا لا يتوقع منه في المسألة الأوكرانية إضافة رادعة رغم كونه ضلعا مهما من الذين ورطوا أوكرانيا في أزمتها الحالية حينما عاقب الرئيس فكتور يانوكوفيتش في تأخيره لتوقيع اتفاقية شراكة مع الاتحاد مما أجج شرارة الأزمة الحالية التي تعصف بأوكرانيا، إضافة إلى المصالح التجارية الكبيرة بين الاتحاد وروسيا ولاسيما الغاز الذي تشتد حاجة أوروبا إليه، كما أن الاتحاد في توسعاته الأخيرة وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي ضم بعض دول هذا المعسكر إلى حظيرته والتي يوجد فيها إما مواطنون من أصول روسية أو موالون لروسيا لأسباب مختلفة أو الاثنين معا مما يشكل ضغطا إضافيا على هذه الدول إذا اتخذت مواقف متشددة من روسيا وقد سمعنا في الأسابيع الماضية تصريحات متوترة من بعض قادة هذه الدول، كما أن موقف ألمانيا والتي تمثل أكبر اقتصاد أوروبي لا زال يوازن بين الأمور لأسباب معتبرة، وفي الخلاصة إن الاتحاد الأوروبي لن يكون له موقف رادع في هذه المسألة. 3. أمريكا، إن أمريكا كانت قاطرة الثورة على الرئيس فكتور يانوكوفيتش ونظامه، ولم تكتف أمريكا في ذلك بل هددت بصريح العبارة للرئيس وللجيش إذا تدخل الأخير لصالح دعم النظام وحينها ظن كثير من المتابعين أنها جادة وفعلا كانت جادة إلا أنها لم تقدر المآلات، وعندما كانت الاحتجاجات تحدث في كييف كان الدبلوماسيون الأمريكيون يزورون كييف ويلتقون المعارضة في الداخل والخارج ويعلنون صراحة أنهم يؤيدون مطالب الشعب العادلة في اختيار مصيرهم، وكان المسئولون الأوكرانيون حينها يقولون إن السفارة الأمريكية في كييف (كما حدث في مصر) هي التي تدير هذه الأزمة إلى أن ذهب بعضهم القول إن أمريكا إذا أرادت حل هذه الأزمة لحلتها الليلة قبل الغد، إلى هذا الحد كان الاعتقاد، وبعد إسقاط النظام في أوكرانيا وظهرت بوادر عدم الرضا عند روسيا حاولت أمريكا بعث رسائل طمأنة إلى روسيا (الأمثلة كثيرة لكنني أسترجع من الذاكرة عندما كانت المفاوضات جارية بين السودان وجنوبه آنذاك كانت إدارة أمريكا تقول إذا سمح السودان إجراء الاستفتاء نرفع عنه العقوبات والقائمة السوداء...) أما الآن فأمريكا استفدت جميع وسائل الضغط وأوضاع أوكرانيا لا زالت تتعقد أكثر فأكثر. 4. روسيا، رب ضارة نافعة، ويبدو أن الرئيس فلاديمير بوتين يضحك حتى بدت النواجد لا بل يقهقه بحيث مثلت هذه الأزمة لروسيا ذريعة لتصفية الحسابات، وليس الأمر حاليا يتعلق بأوكرانيا بل أبعد من ذلك بحيث شرعنت روسيا لتدخلاتها المستقبلية في دول الاتحاد السوفياتي السابق وربما في دول أخرى، بحيث أجازت غرفها البرلمانية تشريعا من هذا النوع الغريب، أدركت روسيا بطرقها الخاصة أن المواجهة العسكرية معها مستحيلة لهذا لا مانع لديها من الاستمرار في سياسة استقطاع الأراضي في ظل أمن وأمان من المواجهة العسكرية، فاليوم شبه جزيرة القرم وغدا شرق أوكرانيا وبعد غد جنوبها إلى دول أخرى وإلى حد التخمة ودون رقيب وحسيب، وكل ذلك يحدث في القرن الحادي والعشرين، عصر العلم الذي كان يتوقع أن تتم فيه حلول المشكلات بطريقة علمية تتلاءم مع روح العصر. نحن أمام معسكرين، معسكر يضم السلطات الجديده في أوكرانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدةالأمريكية إنه معسكر يمتلك كل أدوات القهر والقوة دون استثناء في عالم اليوم، هذا المعسكر رغم قوته إلا أنه لا يمتلك أدوات ضغط في داخل المعسكر الآخر (روسيا) فلطالما زعزع هذا المعسكر استقرار الدول عبر وسائل الضغط المختلفة من التهديد والتجويع والقلاقل والغزو إن لزم الأمر، أما في هذه المسألة فلا التهديد يفيد مع روسيا ولا التجويع ولا القلاقل كذلك، أما الغزو فلن يكون مطروحا أبدا، أما المعسكر الآخر فيضم روسيا وموالين لها في أوكرانيا كما أنه يمتلك أدوات ضغط في بعض دول الاتحاد الأوروبي، فروسيا في هذه المسألة تعتمد على قوتها العسكرية ليس معنى ذلك أنها أقوى عسكريا من المعسكر الآخر لكنها تبدو أنها مستعدة للاستخدام أو على الأقل أنها تتظاهر مما جعل المعسكر الآخر ألا يتحمس في أن يلعب سياسة حافة الهاوية مع روسيا حتى لا ينزلق العالم وتخرج الأمور عن نطاق سيطرة الجميع، فرغم تدهوره السابق بدفعه الأمور إلى هذه الدرجة من السخونة إلا أنه أكثر عقلانية في هذه الحال. وأمام هذا المشهد يمكن القول إن العالم كله الآن يقع تحت رحمة روسيا وسياسة استقطاع الأراضي، فهي التي تحدد سقف مطامعها، فهل تكتفي بأجزاء من أوكرانيا؟ لا أظن بل إن الأمر سيمس سيادة دول أخرى، ولا شك أن هذا التوجه ينطوي على درجة كبيرة من الخطورة مما يعطي مؤشرا قويا فداحة الفشل التراكمي لقيادة العالم الرشيدة والخلل الصارخ في المنظومة الحالية القائمة على الظلم والقهر، ففي مؤتمر برلين تم اقتسام العالم أروبيا وفي مؤتمر يالطا تم اقتسام العالم ضمنيا بين ستالين وتشرتشل وروزفلت ذلك العالم الذي كان ممكن التقاسم، فحدث في تلك القسمة شروخات بسبب تغيرات في الأثقال والموازين بصعود قوى جديدة كالصين مثلا وتغول أخرى كالولايات المتحدةالأمريكية وتراجع أخرى كالاتحاد السيوفياتي، فأمام هذه القوى الصاعدة التي لا ترتضي المشهد والتي تراجعت لكنها تسعى إلى استعادة حصتها وزيادة والمتغولة والتي تسعى إلى فتح مزيد من المواقع، يقع العالم أمام هذا الجشع اللأخلاقي. أثر العقوبات الاقتصادية المحتملة على روسيا في تعديل مواقفها الحالية إن التجارة الخارجية الروسية ليست بالكبيرة عدا الغاز الذي لا يمكن الاستغناء عنه وليس معنى ذلك أن تلك العقوبات في حال فرضت أنها لا تؤثر بدرجة أو بأخرى، صحيح أن الغرب –رغم عدم جديته- يلوح بفرض عقوبات قاسية على روسيا كالذي حدث في إيران، وهذا الخيار مستبعد عندي، فلا يمكن بحال من الأحوال فرض عقوبات قاسية على روسيا وفي حال حدوث ذلك تكون المسألة أخطر بحيث اقترب الفاصل عن الحرب الشاملة، لأن من المعروف أن الدول القوية أحيانا تستنزف الدول الأقل منها قوة وتفرض عليها إتاوات في السر وهو المفضل أو العلن إن لزم الأمر، كما توجد بعض الدول المسلحة بمعنى التسلح والتي تعيش على فوهة ترساناتها، فدولة مثل روسيا والتي تمتلك بهذه الترسانة المعروفة والمتخيلة لا يمكن أن تتعرض لعقوبات مؤثرة فدون ذلك دمار ودمار، وحتى لا نذهب بعيدا ففي حال كوريا الشمالية كفاية وزيادة، إذن فليبحث المعنيون وهم الغرب معالجات أخرى لهذه القضية، إضافة إلى ذلك ورغم نفوذ الغرب على العالم إلا أن هناك عالما آخر يمكن المتاجرة معه وأوله دول بريكس وغيرها من دول العالم. فأين تذهب بالعالم هذه الأزمة؟ إن العالم مقبل على تقاسم جديد وتحالفات جديدة وسيسود منطق الاعتماد على القدرة العسكرية وسيشهد إقبالا على إنتاج الأسلحة الرادعة لتشعر كل دولة قادرة على إنتاج هذا النوع من السلاح طمأنينة من الغزو الخارجي واستقطاع أراضيها مقابل رعب العالم من تكدس هذه الأسلحة المدمرة التي تنتظر لحظة انطلاقها، كما أن العالم مقبل على مرحلة تسود فيها عدم الثقة بحماية حليف، فكانت قبل سنوات عندما سلمت أوكرانيا سلاحها الرادع مقابل ضمان أمنها من قبل روسيا الغازية على أراضيها وأمريكا وبريطانيا اللتين لعبتا دورا رئيسا في تأجيج أزمة أوكرانيا الحالية وها هما الآن يقفان موقفا لا يحسد عليه من هذه الأزمة، وكانت كذلك قبل سنوات قليلة عندما فعلت روسيا في جورجيا ما فعلت إلى أن قال رئيس جورجيا بعد ما شاهد هول الدمار الذي لحق بلده بسبب رهانه على العون الغربي الذي وقف آنذاك موقف المتفرج تماما كما يحدث في أوكرانيا الآن، قال الرئيس الجورجي حينها: إنه من سوء الحظ أن يكون لك جيران قوي ومعاد...، وأقول إن من سوء الحظ أيضا أن يكون لك جيران من هذا النوع ثم لا تقدر العواقت، إن سيادة أوكرانيا ستضيع بحيث تستقطع روسيا إربا إربا، وأن الأمر لن يتوقف عند هذا الحد وذلك بعد التشريع الروسي لمنح جواز سفر الروسي لسكان الاتحاد السيوفياتي السابق، هذا التشريع الجريئ والمقلق توقيتا ومغزى وتطبيقا، إنه تشريع يمكن تسميته تشريع حرب على دول الاتحاد السيوفياتي السابق بمواقعها وتحالفاتها المختلفة. إن تأريخا جديدا يبدأ من أوكرانيا، تأريخا يختلف ما بعده عما قبله، إن العالم مهدد بالضياع بأيدينا، وأملي أن تسود العدالة غير الانتقائية، فيوجد في الكون ملايين البشر أوصلهم الجور والظلم إلى الاعتقاد بأن تلك الكارثة تمثل لهم الأمل بمنطق تسلط الظالم بالظالم.